القواعد الفقهية الجزء الثاني اية الله العظمى السيد محمد حسن البجنوردي تحقيق مهدي المهريزي - محمد حسن الدرايتي
[ 2 ]
القواعد الفقهية / ج 2 المؤلف: آية الله العظمى السيد محمد حسن البجنوردي المحققان: محمد حسين الدرايتي - مهدي المهريزي الناشر: نشر الهادي الطبع: مطبعة الهادي الطبعة الاولى: 1419 ه ق - 1377 ه ش الكمية: 1000 نسخة شابك (ردمك) 7 - 030 - 400 - 964 isbn ايران قم، شارع الشهداء، پلاك 759، هاتف: 737001
[ 3 ]
بسم الله الرحمن الرحيم
[ 7 ]
14 - قاعدة - عدم ضمان الامين
[ 9 ]
قاعدة عدم ضمان الامين *
ومن جملة القواعد الفقهية المشهورة قاعدة " عدم ضمان الامين إلا مع التعدي والتفريط ": وفيها جهات من البحث: (الجهة) الاولى في مداركها وهي أمور: (الاول): عدم وجود السبب لضمانه، وذلك من جهة أن سبب الضمان الواقعي - أي المثل أو القيمة في غير الضمان المعاوضي والعقدي - أمور كلها ليس فيما إذا تلف مال الغير في يد الامين بدون تعد ولا تفريط، لان أحد أسباب الضمان الواقعي هو الاتلاف لقاعدة " من أتلف مال الغير فهو له ضامن " والمفروض في المقام هو التلف لا الاتلاف. الثاني: هو اليد وقد بينا في الجزء الاول من هذا الكتاب في شرح قاعدة اليد (1) أن
*. " القواعد والفوائد " ج 1، ص 342، " الحق المبين " ص 89، " مجموعة رسائل " ش 18، ص 48، " عناوين الاصول " عنوان 65، " خزائن الاحكام " ش 31، " دلائل السداد در قواعد فقه واجتهاد " ص 68، " مجموعه قواعد فقه " ص 168، " قواعد فقه " ص 95، " اصول الاستنباط بين الكتاب والسنة " ص 107، " القواعد " ص 17، " قواعد فقهى " ص 61 " القواعد الفقهية " (فاضل اللنكراني) ج 1، ص 28، " القواعد الفقهية " (مكارم الشيرازي) ج 4، ص 251، " المبادى العامة للفقه الجعفري " ص 284. 1 - " القواعد الفقهية "، ج 1، ص 177.
[ 10 ]
اليد التي تكون موجبة للضمان إما هي اليد المعنونة بعنوان العادية كما قيل، ومعلوم أن
يد الامين - سواء كانت الامانة مالكية كعين المستأجرة، أو المرهونة عند الملتقط المرتهن، أو العارية عند المستعير وأمثال ذلك، أو كانت أمانة شرعية كاللقطة عند أيام التعريف أو المال المجهول المالك أو أموال الغيب والقصر عند الحاكم الشرعي، أو المأذون، أو المنصوب من قبله لاجل ذلك وغير ذلك مما هو مثلها - ليست يدا عادية. وإما هي يد غير المأذونة من قبل المالك أو من قبل الله تعالى كما هو الصحيح. وأيضا معلوم أن يد الامين إما مأذونة من قبل المالك - سواء كان الاستئمان لنفع المالك كما في أنحاء الاجارات، أو لنفع الامين كما في باب العارية - وإما مأذونة من قبل الله تعالى. الثالث: التغرير، كما ذكرنا وجهه في قاعدة الغرور في الجزء الاول من هذا الكتاب (1). ولا شك في أنه لا تغرير من طرف الامين للمالك بالنسبة إلى المال الذي في يده، ولو كان فهو ضامن ولا يضر بعموم هذه القاعدة لان المراد بها أن صرف تلف مال الغير عنده وفي يده لا يكون موجبا للضمان بدون التعدي والتفريط أما لو وجد سبب آخر فأجنبي عن المقام. الثاني: من وجوه عدم الضمان هو الاخبار. منها: ما في المستدرك عن أمير المؤمنين عليه السلام " ليس على المؤتمن ضمان " (2). ومنها: ما في الوسائل عن أبان بن عثمان، عمن حدثه، عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: وسألته عن الذي يستبضع المال فيهلك أو يسرق أعلى صاحبه ضمان؟ فقال عليه السلام:
(1) " القواعد الفقهية " ج 1، ص 270. (2) " مستدرك الوسائل " ج 13، ص 16، أبواب كتاب الوديعة، باب 4، ح 15978.
[ 11 ]
" ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أمينا " (1). وأيضا في الوسائل عن المقنع قال: سئل الصادق عليه السلام عن المودع إذا كان غير ثقة هل يقبل قوله؟ قال: " نعم ولا يمين عليه " (2). ومنها: أيضا في الوسائل عن قرب الاسناد: عبد الله بن جعفر، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله عليه السلام: " قال: ليس لك أن تأتمن من خانك ولا تتهم من إئتمنت " 3. وأيضا عنه عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عليه السلام عن أبيه عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " ليس لك أن تتهم من قد إئتمنته " 4. ومنها: الخبر المعروف بينهم: " ليس على الامين إلا اليمين ". وفي عدم ضمان الامين أخبار أخر في كتب الحديث في كتاب الوديعة العموم من هذا التعليق لكل أمين سواء كان أمينا من طرف المالك أو من قبل الشرع. وأما رواية مقنع فتدل على نفي الضمان بطريق أولى لانها تنفي حتى اليمين ويحكم عليه السلام بقبول قوله. وكذلك روايتا قرب الاسناد كلتاهما مفادهما النهي عن اتهام الامين. وأما الخبر المعروف الجاري على الالسنة - إذا ثبت وجوده - فدلالته واضحة لان المراد من نفي غير اليمين هو الضمان. الثالث: الاجماع فان الفقهاء - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - يستندون لعدم الضمان في موارد عديدة بأنه أمين ويرسلونه إرسال المسلمات من غير إنكار لاحد.
(1) (1) " وسائل الشيعة " ج 13، ص 228، أبواب كتاب الوديعة، باب 4، ح 5، وج 13، ص 237، ابواب كتاب الوديعة، باب 1، ح 8. (2) المصدر، ص 228، أبواب كتاب الوديعة، باب 4، ح 7. (3) المصدر، ص 229، أبواب كتاب الوديعة، باب 4، ح 9.
(4) المصدر، ح 10.
[ 12 ]
فكأن هذه كبرى مسلمة عند الكل وهي أن الامين لا يضمن ونحن إستشكلنا على أمثال هذه الاجماعات في هذا الكتاب فلا نعيد. الرابع: أن الامين المأذون من قبل المالك أو من قبل الشارع لنفع المالك محسن إليه وقال تعالى: (وما على المحسنين من سبيل) 1 وحيث أن كلمة " سبيل " في الآية الشريفة نكرة واقعة في سياق النفي يفيد العموم فكل سبيل منفي بالنسبة إلى المحسنين. ولاشك أن كون الضمان على عهدة الامين سبيل فبعد الفراغ عن كونه محسنا يكون الضمان منفيا عنه. ويمكن تقريب هذا الوجه بشكل يكون من الاحكام العقلية بان يقال: بعد ما ثبت ان الامين - بالبيان المتقدم - محسن إلى المالك ولم يكن من طرفه تعد ولا تفريط والمال هلك بسبب سماوي مع كمال التوجه في حفظه من طرف الامين فالعقل في هذه الصورة يستقبح تغريم الامين. فعدم غرم الامين وكذلك عدم ضمانه حكم عقلي. وقوله تعالى: (وما على المحسنين من سبيل) تقرير وتثبيت لذلك الحكم العقلي. ولكن هذا الوجه لا يجري في جميع الامناء والمأذونين ففي مثل العارية وان كان المستعير مأذونا من قبل المالك ولكن لا يعد محسنا إلى المالك بل تصرفه في مال المالك لاجل مصلحة نفسه لا المالك. الجهة الثانية في شرح المراد من هذه القاعدة فنقول: أما المراد من " الضمان " هو الضمان الواقعي أي المثل في المثليات والقيمة في
(1) التوبة (9): 91.
[ 13 ]
القيميات. وان شئت قلت: إن في موارد اليد غير المأذونة - لا من قبل المالك ولا من قبل الشارع - كل مال وقع تحت اليد إعتبره الشارع في ذمة ذي اليد وفي عهدته. وهذا الامر الاعتباري ثابت في ذمته وعهدته لا يرتفع إلا بأداء نفس المال الذي أخذه مادام نفس المال موجودا وبعد تلفه أيضا ذلك الامر الاعتباري ثابت وباق في عالم الاعتبار التشريعي ولا يرتفع إلا بأداء مثله في المثليات وقيمته في القيميات. وأما وجه هذه الامور: فذكرنا جملة منها في بعض مباحث قاعدة اليد 1 وتفصيله مذكور في الفقه في كتاب الغصب وفي مسألة المقبوض بالعقد الفاسد في كتاب البيع. وأما المراد من " الامين " هو أن يكون مال الغير في يده باذن من المالك أو من الله من غير خيانة له بالنسبة إلى ذلك المال من فعل أو ترك يوجب تلفه أو نقصا فيه. فبهذا المعنى إن صدر منه تعد أو تفريط بالنسبة إلى ذلك المال يخرج عن كونه أمينا فعدم التعدي والتفريط مأخوذان في حقيقة الامين والاستثناء في القاعدة مستدرك لانه إذا صدر عنه التعدي أو التفريط فهو خائن وليس بأمين فانهما ضدان. فالائتمان عبارة عن تسليم ماله أو شئ آخر إليه واثقا منه بعدم خيانته في حفظه أي يثق به أنه لا يفعل فعلا يضر بذلك المال أو ذلك الشئ ومثل هذا الفعل هو التعدي. وأيضا يثق به أنه لا يترك أمرا وفعلا يكون ترك ذلك الفعل أو ذلك الامر موجبا لضياعه وتلفه أو لورود نقص عليه وهذا هو التفريط. وبناء على هذا يكون الائتمان مقابل الاتهام أي الظن بانه يخون أو خان فعلا. ويشير إلى هذا المعنى روايتا قرب الاسناد المقدم ذكرهما: " ليس لك أن تتهم من قد إئتمنته ".
(1) " القواعد الفقهية " ج 1، ص 177.
[ 14 ]
و " ليس لك أن تأتمن من خانك ولا تتهم من إئتمنت ".
فالامين هو الموثوق به عرفا في اعطاء ماله له بحيث يكون عنده محفوظا إلى أن يرده إلى صاحبه. وهذا الاعطاء قد يكون لمصلحة المالك وقد يكون لمصلحة الآخذ. فالاول كالوديعة وما يشبهها. فالوديعة عبارة عن ايداع ماله أو شئ آخر عند شخص لوثوقه به لكي يسترده فيما بعد. فالامين هو الذي يثق المودع به في ايداع ماله عنده ولذلك كانوا في الجاهلية يخاطبون نبينا صلى الله عليه وآله ب " الامين " قبل بعثته صلى الله عليه وآله ويودعون عنده الودائع لوثوق جميع الناس به. وأما تصرفات الامين في المال الذي عنده الغير المأذون في تلك التصرفات فتكون موجبة للضمان ولو لم تكن موجبة لتلف المال بل كانت موجبة لازدياد قيمته بل و عينه من جهة خروج اليد عن كونها مأذونة فتكون من قبيل الغصب وتدخل تحت قاعدة المعروفة " وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه " وذلك لان الخارج عنها هي اليد المأذونة. وأما المراد من " التعدي " و " التفريط " اللذان يوجبان الضمان ثم استثنائهما عن قاعدة عدم ضمان الامين: فلم يرد دليل شرعي لهذين العنوانين كي نتكلم في مفهوم التعدي والتفريط من حيث موضوعيتهما للحكم الشرعي. بل الذي يستفاد من الادلة والموارد التي حكم الشارع فيها بالضمان كمورد صحيحة أبي ولاد 1 وغيرها هو إما خروج ذي اليد عن كونه مأذونا في ذلك الفعل
(1) " الكافي " ج 5، ص 290، باب الرجل يكترى الدابة فيجاوز الحد...، ح 6، " تهذيب الاحكام " ج 7، ص
[ 15 ]
أو الترك الذي يصدر عنه بالنسبة إلى ذلك المال فإذا كان كذلك فمقتضى قاعدة على
اليد هو الضمان لان الخارج عنها هي اليد المأذونة والمفروض أنها غير مأذونة. وإما صدور فعل أو ترك من ذي اليد على مال الغير بحيث يوجب إتلاف ذلك المال فان الاتلاف سبب مستقل للضمان ولا ربط له بقاعدة على اليد. فإذا كان التعدي والتفريط سببا لخروج اليد عن كونها مأذونة أو كانا سببين لاتلاف المال فيكونان موجبين للضمان لما ذكرنا. وما ذكرنا مناسب للمعنى العرفي لهذين اللفظين وذلك لان المتفاهم العرفي من التعدي هو التجاوز ولا شك أن المؤتمن إذا تجاوز عما أذن له في فعل بالنسبة إلى ذلك المال أو ترك فيخرج عن كونه مأذونا فلو تلف ذلك المال يكون ضامنا. وهذا الامر صريح صحيحة أبي ولاد لانه إكترى البغل إلى مكان معين فتجاوز عما أذن له إلى مكان آخر ولذا حكم - عليه السلام - بضمانه لو تلف البغل. والمتفاهم العرفي من التفريط هو التضييع ولا شك في أن تضييع مال الغير عبارة أخرى عن إتلافه أو إيجاد نقص أو عيب فيه وكل ذلك من أسباب الضمان. فالافراط مثل التعدي عبارة عن التجاوز والتفريط عبارة عن التضييع. ولعل هذا المعنى هو المراد من قوله عليه السلام: " الجاهل إما مفرط أو مفرط " 1. أي إما متجاوز عن الحد أو مضيع. ثم إن الامانة بالمعنى الذي تقدم وهو أن يكون المال عنده باذن صاحبه أو من يكون إذنه معتبرا كاذن صاحبه من كونه وكيلا عنه أو وليا عليه. فهذا الاذن قد يكون من قبل المالك فيسمى ب " الامانة المالكية ". والاذن من قبل
215، ح 943، باب الاجارات، ح 25، " الاستبصار " ج 3، ص 134، ح 483، باب من إكترى دابة إلى موضع فجاز ذلك الموضع...، ح 2، " وسائل الشيعة "، ج 13، ص 255، أبواب الاحكام الاجارة، باب 17، ح 1، و ج 17، ص 313، أبواب الغصب، باب 7، ح 1. (1) " نهج البلاغة " ص 479، الحكمة 70: " لا ترى الجاهل إلا مفرطا أو مفرطا ".
[ 16 ]
المالك قد يكون من قبل نفسه وقد يكون من قبل وكيله. فمورد الامانة المالكية جميع المعاملات التي تصدر من المالك أو وكيله الواقعة على ماله بدون نقل عين ماله إلى من يعطي ماله بيده سواء كان من جهة تمليك منفعته له ويعطى العين له لاستيفاء تلك المنفعة كباب الاجارات أو تمليك الانتفاع مجانا كباب العارية أو يعطيه للحفظ بدون تمليك منفعته أو الانتفاع به كباب الوديعة أو يعطيه لان يعامل معه بحصة من الربح كباب المضاربة أو لان يزرع فيه بحصة من الحاصل كباب المزارعة أو لان يسقيه بحصة من الثمرة كباب المساقاة أو يعطي ماله لان يحمل من مكان إلى مكان باجرة كالحمالين والمكارين. ففي جميع هذه الموارد سواء صدرت المعاملة من نفسه أو من وكيله يكون المال عند ذي اليد أمانة مالكية ولا يوجب تلفه الضمان إلا مع التعدي والتفريط. وقد يكون الاذن من قبل الشارع وان كان بدون إلتفات من قبل المالك إلى أن ماله بيد فلان وهذه " أمانة شرعية " كالمعاملات التي تقع على أموال الغيب والقصر بدون أن يكون فيها نقل العين وذلك كجميع ما ذكرنا في الامانة المالكية من الموارد غاية الامر أن الفرق هو أن في الامانة المالكية كان الاذن من المالك أو من وكليه وفي الامانة الشرعية من قبل الله جل شأنه. فلو آجر الحاكم الشرعي أو من يكون وكيلا أو مأذونا من قبله أموال الغيب والقصر أو أودع عند أمين أو أعار فيما إذا كان فيها مصلحة للغيب أو القصر أو أعطى أموالهم للحمالين أو المكارين أو سائر التصرفات التي يطول المقام بذكرها فتلف ذلك المال في يد المأذون من قبلهم فلا يكون من وقع في يده التلف ضامنا لانه أمين ومأذون غاية الامر أن الامانة شرعية لا مالكية.
وكذلك الامر في اللقطة فان الواجد والملتقط ليس ضامنا لو تلف ما وجده في يده
[ 17 ]
ما دام مشغولا بالتعريف لانه مأذون في أن يكون هذا المال الذي وجده عنده إلى أن يتم التعريف سنة كاملة أو يحصل له اليأس من معرفة صاحبه فيتصدق به عن قبل صاحبه. والحاصل: أن الامين أي المأذون من قبل المالك أو الشارع في كون مال تحت يده لا يكون ضامنا لذلك المال لو تلف في يده إلا مع التعدي والتفريط بالمعنى المتقدم لما تقدم. واستشكل في عموم هذه القاعدة بموارد منها: حكمهم بالضمان في المقبوض بالسوم مع أن قبضه ووقوعه تحت يده باذن المالك. وفيه: أولا: أن هذه المسألة خلافية وقد ذهب جمع إلى عدم الضمان معللا بأنه أمانة مالكية. وثانيا: على تقدير القول بالضمان يمكن أن يقال بأنه ليس القبض هناك بعنوان الامانة بل بعنوان أن يكون عند اختيار القابض للاشتراء مضمونا عليه بالعوض المسمى. وبعبارة اخرى: أخذه وقبضه يكون بعنوان المقدمية للشراء والضمان بالعوض المسمى فهو خارج عن باب الامانات بكلا قسميه مالكية وشرعية بالتخصص لا بالتخصيص فلا تنخرم القاعدة به لانه خارج عن موضوع الامانة لان موضوعها إما الامانة المالكية أو الامانة الشرعية بالمعنى الذي تقدم وكلاهما ليسا في المقام. ومنها: حكمهم بالضمان في المقبوض بالعقد الفاسد فانهم أجروه مجرى الغصب إلا في الاثم إن كان جاهلا بالفساد مع أن القابض مأذون من قبل المالك سواء كان
المقبوض الثمن بالنسبة إلى البائع أو المثمن بالنسبة إلى المشتري.
[ 18 ]
وفيه: أن الاذن في القبض في المقبوض بالعقد الفاسد ليس باعتبار الاذن في قبض مال المقبوض منه بل باعتبار قبض نفس مال القابض وانه ملك بالعقد فهو خارج عن موضوع الامانات لان الامانة المالكية هو أن يأذن المالك للقابض في قبض مال المالك الآذن لا ما هو مال نفس القابض. إن قلت: إن ما نحن فيه أي باب المقبوض بالعقد الفاسد أيضا كذلك فان المال واقعا ليس للقابض بل صرف تخيل منه أو منهما إذا كان القابض أو كانا جاهلين بالفساد ولذا لو كان المالك عالما بالفساد فاذن في القبض فقد أذن في قبض ماله فيكون ماله عند القابض أمانة مالكية. قلنا: نعم الامر كما قلت فاذن المالك تعلق واقعا بمال نفس المالك لا القابض ولكن حيث أنه جاهل بالفساد يأذن بعنوان أخذ مال نفسه أي نفس القابض ومثل هذا الاذن لا تتحقق به الامانة قطعا ولا تدخل يد القابض بمثل هذا الاذن تحت عنوان يد المأذونة. ولذلك لو قدم ماله إليه باعتقاد أنه ماله أي مال القابض فاتلفه القابض يكون ضامنا لاتلافه مال الغير أي المعطي. ولا يكون مثل هذا الاذن مانعا عن تحقق الضمان. وكذلك أو قال لزيد: يا صديقي خذ هذا المال فهو لك حلال أو قال: يا صديقي أدخل دارى كل ذلك باعتقاد أنه صديقه وفي الواقع هو عدوه فليس له أن يأخذ ذلك المال أو يدخل داره باعتبار ذلك الاذن الذى منشأه الاشتباه وتخيل أنه صديقه. وإن قيل في هذا المقام: لو خاطب الشخص مثلا وقال: يا زيد أدخل دارى باعتقاد أنه صديقه يجوز له أن يدخل داره وإن لم يكن صديقه وكان صاحب الدار مشتبها
في أنه صديقه لان الاذن صدر منه وإن كان مشتبها في جهة الصدور. وأما إن قال: يا صديقي أدخل ففيما لم يكن صديقا له في الواقع ليس له أن يدخل
[ 19 ]
لان الاذن تعلق بعنوان " الصديق " وهو ليس مصداقا لهذا العنوان على الفرض. وعلى كل حال في المقبوض بالعقد الفاسد ليست يد القابض يد أمانة مع جهل المعطي بالفساد فتدخل تحت قاعدة " وعلى اليد ما أخذت ". وليس حكمهم بالضمان هناك تخصيص لهذه القاعدة أي قاعدة " عدم ضمان الامين إلا مع التعدي أو التفريط ". هذا كله مضافا إلى أن إذن المعطي في مسألة المقبوض بالعقد الفاسد ليس بان يكون في يده بلا عوض بل الاذن مقيد بكونه في يده مع العوض غاية الامر العوض المسمى لا الضمان الواقعي. وحيث إن الشارع لم يمض العوض المسمى فيكون عليه العوض الواقعي لانه لم يقدم على الاعطاء مجانا ولم يهتك احترام ماله. وقلنا: إن إذنه بكونه في يده مقيد بكونه في يده مضمونا عليه لا مجانا، فهو أجنبي عن مسألة عدم الضمان على الامين بكلا قسميه أي الامانة المالكية والامانة الشرعية. ومنها: حكمهم بضمان المبيع إن تلف في يد البائع قبل أن يقبض المشتري بعد تحقق المعاملة ووقوعها بجميع شرائطها وأركانها وان كان بقاؤه في يد البائع باذن المالك أي المشتري. وفيه: أن هذا ليس من باب ضمان الامين بل من جهة حكم الشارع بانفساخ العقد آنا ما قبل التلف لكي يقع التلف في ملك البائع فليس من باب الضمانات وتلف ملك الغير في يده وإلا لو كان كذلك فكان مقتضاه الضمان الواقعي أي المثل أو القيمة كل واحد منهما في محله.
والدليل على انفساخ العقد ورجوع كل واحد من العوضين إلى ملك مالكه الاول هي الاخبار الواردة في هذا الباب وقد ذكرناها مع سائر ما قيل أو يمكن أن يقال في كونها دليلا على هذا الحكم في شرح قاعدة " كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من
[ 20 ]
مال بائعه " 1. ومنها: أن المالك إذا رضى أن يكون مال المغصوب باقيا في يد الغاصب واذن له في ذلك أي في كونه أمانة فمع ذلك يكون الغاصب ضامنا لو تلف في يده. وفيه: أنه لو كان الامر كذلك وكان بهذه الصورة أي قال إنه أمانة عندك والغاصب أراد الرد وهو لم يقبل وجعله أمانة عنده. فالحق أنه لا ضمان في هذه الصورة وإلا فبصرف الرضا بالبقاء لا تخرج يده عن كونها يد الغاصب. ومنها: أنهم قالوا في باب اللقطة ومجهول المالك: إن له أن يتصدق به عن طرف مالكه ويده أمانة شرعية فمأذون من قبل الشارع ومع ذلك قالوا بالضمان إن وجد صاحبه. وفيه: أنه فرق بين أن يكون في يده أمانة ويحفظه وان يكون له أن يتصدق عن قبل مالكه. ففي الصورة الاولى لو تلف لا ضمان عليه لاجل هذه القاعدة وبل لقاعدة الاحسان لقوله تعالى (ما على المحسنين من سبيل) 2. وأما في الصورة الثانية فالاذن في التصدق عن قبل صاحبه مشروط بان يكون ضامنا له إن وجد. وبعبارة أخرى: جعل الشارع له هذا الحكم مقيد بان يكون عليه الضمان على تقدير ظهور صاحبه. هذا إن قلنا بالضمان وإلا فلا اشكال كي يجاب.
ومنها: الاكل في المخمصة فانهم قالوا بانها مأذون في هذا التصرف ومع ذلك
(1) سيأتي في هذه المجلدة، ص 79 - 100. (2) التوبة (9): 91.
[ 21 ]
قالوا بالضمان. وفيه: أنه لا دخل لهذه المسألة بباب الامانة وأما الاذن من قبل الشارع بالنسبة إلى مثل هذا التصرف وإن كان مسلما لكنه من أول الامر مقيد بالاتلاف بعوض لا مجانا. فهذه المسألة أجنبية عن مسألتنا. وأما الصانع والحمال والمكاري والاجير وأمثالهم من الذين مأذونون من طرف المالك أو من كان بمنزلته كوكيله أو وليه أو الذين هم مأذونون من طرف الشارع بأن يكون المال في يده فليس تلفه موجبا لضمانهم لاجل هذه القاعدة التي أثبتناها بالادلة المتقدمة. وأما إتلافهم لذلك المال فموضوع آخر غير التلف والضمان يكون لاتلافه لو قلنا به في بعض المقامات. فتلخص من مجموع ما ذكرنا من أول القاعدة إلى هاهنا أن قاعدة عدم ضمان الامين لو تلف ما في يده بدون تعد وتفريط قاعدة فقهية ثابتة بالادلة. والنقوض التي أوردوها لا يرد شئ منها عليها وان باب ضمان الاتلاف خارج عن مورد هذه القاعدة فان موردها التلف وضمان اليد كما عرفت. الجهة الثالثة في موارد تطبيق هذه القاعدة وموارد تطبيقها وان ظهرت مما ذكرناه وهو أن كل مورد يكون مال الغير بيد شخص هو مأذون من قبل مالكه أو من قبل الشرع في أن يكون ذلك المال بيده
بغير تضمينه من قبل المالك أو بغير اشتراط الاذن من قبل الشارع بكونه ضامنا عند التلف.
[ 22 ]
وبعبارة اخرى: يكون أمينا من قبل مالكه أو من قبل الشارع، ففي مثل هذا المورد لو تلف ذلك المال في يده بدون تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه من ناحية يده. فالموارد التي لا ضمان عليه من جهة إذن المالك في كونه بيده: ككونه وكيله في أنواع المعاملات من بيع أو صلح أو إجارة أو الاخذ بالشفعة أو رهن أو أداء دين أو إعطاء قرض أو مضاربة أو مزارعة أو مساقات أو في شراء حاجة من أمور معاشه أو في شراء ملك أو دار أو بستان أو يعطي ماله للحمالين أو المكارين لحمله ونقله وكثير من الموارد الاخر التي تركناها لوضوحها بعد معرفة الضابط فيها ولان لا تطول المقام. والموارد التي لا ضمان عليه من جهة إذن الشارع: كاللقطة مدة التعريف ومجهول المالك إلى أن يحصل اليأس من معرفة صاحبه وان يتصدق به عن طرف صاحبه بعد حصول شرائط التصدق من وجود الفقير ومعرفته وتحصيل الاذن من الحاكم الشرعي إن لم يكن هو بنفسه متصفا بهذه الصفة. وكيد الحاكم الشرعي أو وكيله أو المأذون من قبله على أموال القصر والغيب. وكيد الاب أو الجد على أموال صغارهما أو كيد الوصي أو القيم من قبلهما عليهم. وكيد صاحب المال الذي تعلق به الخمس أو الزكاة إلى حصول المستحق ووجدان الفقير وإمكان الايصال بهم عرفا أو المال الذي أنقذه من الغرق أو الحرق أو أخذه من يد السارق بدون إطلاع المالك في الموارد الثلاثة. ففي هذه الموارد وكثير من الموارد الاخر من أمثالها لو تلف المال في يد الامين بلا تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه من ناحية يده.
نعم لو تحقق أحد أسباب الضمان الاخر غير اليد فهو يكون على مقتضاه والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
[ 23 ]
15 - قاعدة - الاتلاف
[ 25 ]
قاعدة الاتلاف * ومن جملة القواعد الفقهية المشهورة التي تمسك بها الفقهاء في موارد الضمان هي قاعدة " من أتلف مال الغير بلا إذن منه فهو له ضامن ". والبحث فيها من جهات ثلاث: الجهة الاولى في مداركها أقول: إن هذه القاعدة مما اتفقت عليها الكل ولا خلاف فيها بل يمكن أن يقال إنها مسلمة بين جميع فرق المسلمين وربما يقال إنها من ضروريات الدين. واستدل عليها الشيخ وابن إدريس في المبسوط 1 والسرائر 2 بقوله تعالى: (ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) 3. ولا شك في أن إتلاف مال الغير بدون إذنه ورضاه إعتداء عليه وتعبيره سبحانه
*. " الحق المبين " ص 87، " عناوين الاصول " عنوان 58، " خزائن الاحكام " ش 25، " مجموعه رسائل " ش 12 ص 474، " دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد " ص 94، " مجموعه قواعد فقه " ص 143، " قواعد فقه " ص 91، " اصول الاستنباط بين الكتاب والسنة " ص 110، " القواعد " ص 19، " قواعد فقه " ص 109 " قواعد الفقه " ص 137، " قواعد فقهي " ص 21، " القواعد الفقهية " (فاضل اللنكراني) ج 1 ص 45، القواعد الفقهية " (مكارم الشيرازي) ج 4، ص 193، " قواعد الفقهية " ش 41، ص 119، " المبادي العامة
للفقه الجعفري " ص 387، " مجله حقوقي دادگسترى " العام 1، ش 4 " ضمان تلف " مصطفى امامى. (1) " المبسوط " ج 13، ص 60. (2) " السرائر " ج 2، ص 480. (3) البقرة (2): 194.
[ 26 ]
وتعالى عن أخذ المثل في المثليات والقيمة في القيميات الذي هو عبارة عن كونه ضامنا بالاعتداء للمشاكلة كقوله تعالى: (جزاء سيئة سيئة مثلها) 1 وكقول الشاعر: قالوا اقترح شيئانجد لك طبخه * قلت اطبخوا لي جبة وقميصا فالآية تدل دلالة واضحة على أن من أتلف مال الغير بدون إذنه ورضاه فهو له ضامن. وقال الشيخ في المبسوط: روى الاعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: " حرمة مال المسلم كحرمة دمه ". ولا شك في أن احترام المال وانه بمنزلة دمه يدل على أنه لو أتلفه متلف لا يذهب هدرا بل يكون ضمانه عليه. وروي الشيخ أيضا في المبسوط عن عبد الله بن السائب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: " لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا من أخذ عصا أخيه فليردها " 3. وأيضا روي في المبسوط عن الحسين أو حسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " 4. والرواية الاخيرة أي قوله صلى الله عليه وآله " وعلى اليد ما أخذت حتى تؤدي " وفي بعض النسخ " حتي تؤديه " رويت عن طريق الخاصة أيضا 5. كما أن ما رواه ابن مسعود أي قوله صلى الله عليه وآله " حرمة مال المسلم كحرمة دمه " أيضا رواه الخاصة 6 وأيضا يدل عليه وقوله عليه السلام: " المغصوب مردود " 7.
(1) الشورى (42): 40. (2) " المبسوط " ج 3، ص 59. (3) المصدر. (4) المصدر. (5) " مستدرك الوسائل " ج 14، ص 7، أبواب كتاب الوديعة، باب 1، ح 15944، " عوالي اللئالى " ج 1، ص 224، ح 106، وج 2، ص 389، ح 10، وج 3، ص 246 و 251 ح 2 و 3. (6) " عوالي اللئالى " ج 3، ص 473، ح 4. (7) " الكافي " ج 1، ص 539، باب الفى والانفال و...، ح 4، " تهذيب الاحكام " ج 4، ص 128، ح 366، باب
[ 27 ]
وحكى في المستدرك عن دعائم الاسلام: روينا عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام: " إن رسول الله صلى الله عليه وآله خطب يوم النحر بمنى في حجة الوداع وهو على ناقة العضباء فقال: أيها الناس إني خشيت أن لا ألقاكم بعد موقفي هذا بعد عامي هذا فاسمعوا ما أقول لكم فانتفعوا به ثم قال أي يوم أعظم حرمة؟ قالوا: هذا اليوم يا رسول. قال: فأي الشهور أعظم حرمة؟ قالوا: هذا الشهر يا رسول الله. قال: فأي بلد أعظم حرمة؟ قالوا: هذا البلد يارسول الله. قال: فان حرمة أموالكم عليكم وحرمة دمائكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى أن تلقوا ربكم فيسئلكم عن أعمالكم ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: " أللهم أشهد " الحديث. 1 وأيضا عنه عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال في حديث: " فمن نال من رجل شيئا من عرض أو مال وجب عليه الاستحلال من ذلك والانفصال من كل ما كان منه إليه وإن كان قد مات فليتنصل من المال إلى ورثته وليتب إلى الله مما أتى إليه حتى يطلع عليه عزوجل بالندم والتوبة والانفصال. ثم قال: - ولست أخذ بتأويل الوعيد في
أموال الناس ولكني أرى أن أؤدي إليهم إن كانت قائمة في يدي من إغتصبها ويتنصل إليهم منها وإن فوتها المغتصب أعطى العوض منها فان لم يعرف أهلها تصدق بها عنهم على الفقراء والمساكين وتاب إلى الله عزوجل مما فعل " 2. وأيضا في المستدرك عن دعائم الاسلام عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنه قضى فيمن قتل دابة عبثا أو قطع شجرا أو أفسد زرعا أو هدم بيتا أو عور بئرا أو نهرا أن يغرم قيمة ما استهلك وأفسد وضرب جلدات نكالا. وإن أخطأ ولم يتعمد ذلك فعليه الغرم
قسمة الغنائم، ح 2، " وسائل الشيعة " ج 6، ص 365، أبواب الانفال وما يختص للامام عليه السلام، باب 1، ح 4. و في الكافي والوسائل: " لان الغصب كله مردود ". وفي التهذيب: " لان المغصوب كله مردود ". (1) " مستدرك الوسائل " ج 17، ص 87، ابواب كتاب الغصب، باب 1، ح 20816. (2) " مستدرك الوسائل " ج 12، ص 105، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، باب 78، ح 13641، وج 17، ص 87، أبواب كتاب الغصب، باب 1، ح 20817.
[ 28 ]
ولا حبس ولا أدب. وما أصاب من بهيمة فعليه ما نقص من ثمنها 1. وأيضا يمكن استفادة هذا الحكم من صحيحة أبي ولاد التي ذكرها الشيخ الانصاري قدس سره في المكاسب 2. ودلالة هذه الاخبار على ضمان المتلف لمال الغير بدون إذنه ورضاه في كمال الوضوح مضافا إلى ما عرفت من الآية الشريفة. وأما ما اشتهر في الالسن من قولهم " من أتلف مال الغير فهو له ضامن " فلم نجده في كتب الحديث ولعل المتتبع الخبير يجده أو وجده. وعلى كل حال ثبوت هذا الحكم عند عامة الفقهاء بدرجة تكون غنية عن الفحص والبحث في مداركه. الجهة الثانية
في بيان المراد من هذه القاعدة أقول: الظاهر أن التلف بمعنى الهلاك والفناء فاتلاف المال عبارة عن إهلاكه وافنائه والافناء قد يتعلق بذات المال وقد يتعلق بماليته مع بقاء ذاته مثلا لاشك في أن الثلج له مالية في الصيف وأما في الشتاء فلا مالية له أي العقلاء لا يبذلون بازائه المال فإذا أفنى ذات ثلج الغير فهذا إتلاف مال الغير. وأما إذا حبسه على صاحبه حتى دخل الشتاء كما لو غصب المثلج أي المكان الذي يذخرون فيه الثلج لبيعه في الصيف فرد على صاحبه مع الثلج الذي فيه في الشتاء فهذا إتلاف مالية الثلج لا نفسه.
(1) " مستدرك الوسائل " ج 17، ص 95 أبواب كتاب الغصب، باب 9، ح 20842، وج 18، ص 199 أبواب الدفاع، باب 6، ح 22495، وج 18، ص 333، أبواب موجبات الضمان، باب 34، ح 22882. (2) " المكاسب " ص 69.
[ 29 ]
والامثلة لهذا القسم من الاتلاف أي إتلاف المالية دون نفس المال كثيرة. والظاهر من إتلاف المال - سواء كان بعبارة " من أتلف مال الغير " كما هو معقد الاتفاق والاجماع أو كان هو بعبارة " حرمة مال المسلم كحرمة دمه " - هو المعنى الاول أي إفناء نفس المال لا إفناء ماليته وبناء على هذا المعنى فالضمان في موارد إفناء المالية دون نفس المال يحتاج إلى إلتماس دليل آخر. ويكفي في الحكم بالضمان في موارد إفناء المالية دون نفس المال قوله تعالى: (ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) بالتقريب الذي تقدم. وأما المراد من " المال " فالظاهر هو أن كل شئ يكون مطلوبا ومرغوبا عند الناس لاجل قضاء حوائجهم به ويكون دخيلا في معاشهم من المأكولات والمشروبات والملبوسات والمساكن والمراكب والاشياء التي يتزينون بها أو شئ يحصل مطلوبهم
به كالنقود سواء كانت من ذهب أو فضة أو يكون من جنس آخر فهو المال. والحاصل: أن " المال " عبارة عن كل شئ يكون للناس احتياج إليه في تدبير أمورهم في حياتهم وعيشتهم في حال صحتهم ومرضهم بل في حال موتهم فالادوية التي يعالج بها المريض مال عند العرف والعقلاء والمعول 1 الذي يحتاجون إليه في دفن موتاهم مال واقسام النقود التي يحصلون بها ما يحتاجون إليه مال. والمال بهذا المعنى قد يكون من قبيل الجواهر الموجودة مستقلا ولا في الموضوع وذلك مثل كلية الاجسام التي تستعمل في رفع الحاجات كما أشرنا إلى بعضها وقد يكون من قبيل العوارض كركوب الدابة وسكنى الدار والتزين بالذهب والفضة والاحجار الكريمة أو غيرها. ويسمى هذا القسم في إصطلاح الفقهاء تبعا للاطلاقات العرفية ب " المنافع " فالمنافع أيضا مال.
(1) المعول ج معاول: اداة لحفر الارض.
[ 30 ]
فهذه الامور كلها وأيضا كل ما يمكن به تحصيل بعض هذه الامور مال غاية الامر أن نفس هذه الامور أموال تكوينية ليست ماليتها بجعل في عالم الاعتبار. وما يحصل به أحد هذه الامور قد يكون مالا تكوينا وذلك كالمبادلات الجنسية وقد يكون من الاموال الاعتبارية كالاوراق المالية الموجودة في هذه الاعصار فانها في حد نفسها ليست مما يستعمل في رفع حوائج الانسان أو الحيوان ولكن بعد اعتبارها من ناحية من بيده الاعتبار يمكن تحصيل ما يرفع الحوائج بها وعليها الآن مدار المعاملات والمعاوضات في الاسواق. فتلخص من جميع ما ذكرنا أن مدار مالية المال على أحد أمرين: أحدهما: كون الشئ بحيث يرفع به إحدى حاجات الانسان ولو كان علفا لدابته
أو بنزينا لسيارته فضلا عن أن يكون مأكولا أو مشروبا أو ملبوسا لنفسه. والثاني: أن يكون مما يحصل به أحد هذه الامور كالاوراق المالية والنقود الذهبية والفضية أو أحد هذه الامور فيما إذا وقع عوضا في المعاملة لجنس آخر من هذه الامور. ومنه تعريف بعضهم البيع بمبادلة مال بمال وبهذا المعنى الثاني قد تكون مالية المال من الامور الاعتبارية وذلك كالاوراق المالية فهي بالاعتبار تصير مالا وكذلك تسقط ماليتها باعتبار آخر ممن بيده الاعتبار. فقوله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) 1 المراد بالمال المذكور في الآية الشريفة هو هذه الامور التي تقضي بها الحوائج وامور المعاش كلها - كما ذكرنا - أو ما يمكن أن يحصل تلك الامور به. والمال بهذا المعنى مدار الغناء والفقر وجودا وعدما. وأما تعريفه كما صدر عن بعضهم بانه ما يبذل بإزائه المال فهو تعريف لفظي وإلا ففيه دور واضح.
(1) الكهف (18): 46.
[ 31 ]
وأما الضمان في هذه القاعدة: فالمتفاهم العرفي منه هو كون التالف بوجوده الاعتباري في عهدة من أتلفه وهذا هو الضمان الواقعي. وأما الضمان المسمى فهو الذي سماه الطرفان في العقود المعاوضية عوضا عن ما يقابله من الطرف الآخر. فحاصل معنى القاعدة المتسالم عليها هو أنه إن أفنى مال الغير بدون إذنه في ذلك الافناء يكون ذلك المال على عهدته بوجوده الاعتباري وإن لم يكن تحت يده فيجب عليه الخروج عن عهدته باعطاء المثل في المثليات والقيمة في القيميات. الجهة الثالثة
في موارد تطبيق هذه القاعدة وقبل ذلك لابد من بيان مقدمة: وهي أن الاتلاف قد يكون بالمباشرة وقد يكون بالتسبيب. فالاول مثل أن يأكل ماله الذي من المأكولات أو يشرب ماله الذي من المشروبات أو يحرق أثوابه وأمثال ذلك مما يصدر 1 فناء مال الغير عن نفسه بدون توسيط فاعل إرادي أو غير إرادي آخر. والثاني عبارة عن كل فعل صار سببا لوقوع التلف ولم يكن علة تامة للتلف أو جزء الاخير من العلة التامة بل يكون بحيث لو لم يصدر عنه هذا الفعل لم يقع التلف. ولهذا عرفوا السبب بانه ما لا يلزم من وجوده الوجود وإلا فهو العلة التامة أو الجزء الاخير منها ولكن يلزم من عدمه العدم. فعلي هذا المعنى للتسبيب فلو حفر بئرا مكشوفة في الطريق فوقع فيها شئ وتلف
(1) الظاهر انه غلط والصحيح: " يوجب " أو " يسبب " وامثال ذلك.
[ 32 ]
فهو السبب. فالقسم الاول يقينا إتلاف حقيقة فيكون موجبا للضمان قطعا لما ذكرنا من الادلة وعليه الاتفاق من المسلمين قاطبة بل عليه اتفاق جميع عقلاء العالم من المسلمين وغير المسلمين من ذوي الاديان بل ومن غير ذوي الاديان. وأما القسم الثاني أي ما يلزم من عدمه عدم التلف فأيضا يمكن تحصيل الاجماع على كونه موجبا للضمان وقد ادعي في الجواهر 1 نفي الخلاف فيه. هذا مضافا إلى دلالة الاخبار على هذا المعنى: فمنها: صحيح الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام سألته عن الشئ يوضع على الطريق فتمر به الدابة فتنفر بصاحبها فتعقره؟ فقال عليه السلام: " كل شئ يضر بطريق المسلمين
فصاحبه ضامن لما يصيبه " 2. ومنها: صحيح زرارة عنه عليه السلام أيضا قلت له: رجل حفر بئرا في غير ملكه فمر عليها رجل فوقع فيها؟ فقال عليه السلام: " عليه الضمان لان كل من حفر في غير ملكه كان عليه الضمان " 3. ومنها: موثق سماعة: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يحفر البئر في داره أو ملكه؟ فقال عليه السلام: ما كان حفر في داره أو ملكه فليس عليه ضمان وما حفر في الطريق أو في غير ملكه فهو ضامن لما يسقط فيها " 4.
(1) " جواهر الكلام " ج 37، ص 46. (2) " الكافي " ج 7، ص 349، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار، ح 2، " الفقيه " ج 4، ص 155، باب ما جاء فيمن أحدث بئرا أو غيرها في ملكه...، ح 5347، " تهذيب الاحكام " ج 10، ص 223، ح 878، باب ضمان النفوس وغيرها، ح 11، " وسائل الشيعة " ج 19، ص 181، أبواب موجبات الضمان، باب 9، ح 1. (3) " الكافي " ج 7، ص 350، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار، ح 7، " تهذيب الاحكام " ج 10، ص 230، ح 907، باب ضمان النفوس وغيرها، ح 40، " وسائل الشيعة " ج 19، ص 179، أبواب موجبات الضمان، باب 8، ح 1. (4) " الكافي " ج 7، ص 350، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار، ح 4، " الفقيه " ج 4، ص 153، باب ما
[ 33 ]
ومنها: خبر السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أخرج ميزابا أو كنيفا أو أوتد وتدا أو أوثق دابة أو حفر بئرا في طريق المسلمين فأصاب شيئا فعطب فهو له ضامن " 1. وأيضا هناك روايات معتبرة في باب تغريم شاهد الزور حتى قتله في بعض الصور 2 مثلا لو شهد شاهدان عدلان مرضيان بحسب الظاهر على أن فلانا قتل فلانا فقتل المشهود عليه بواسطة هذه الشهادة ثم رجعا عن شهادتهما. فان قالوا:
أخطأنا فعليهما دية المقتول. وإن قالوا: تعمدنا الكذب فيقادان. وخلاصة الكلام أن الروايات في باب ضمان المسبب - بالكسر مثل المباشر - للاتلاف كثيرة وقد ذكرنا جملة منها في شرح قاعدة " المغرور يرجع إلى من غر " 3.. ثم إن ظاهر الروايات التي ذكرناها بعضها فيه الاطلاق بالنسبة إلى قصد موجد السبب لوقوع المسبب وعدم قصده بل ظاهرها هو الضمان. ولو كان حفره للبئر في غير ملكه بقصد عدم وقوع أحد فيه وبرجاء ذلك، فان كان مدرك الضمان في هذه الصورة هو الاجماع يمكن أن يقال بأن المتيقن منه هو فيما إذا قصد بايجاد السبب وقوع التلف. ولكن إذا كان المدرك هي الروايات كما هو كذلك لما ذكرنا مرارا من أن مع وجود دليل معتبر في المقام لا يبقى مجال للاجماع لان أحد مقدمات تحقق الاجماع المصطلح
جاء فيمن أحدث بئرا أو غيرها في ملكه، ح 5341، " تهذيب الاحكام " ج 10، ص 229، ح 903، باب ضمان النفوس وغيرها، ح 36، " وسائل الشيعة " ج 19، ص 180، أبواب موجبات الضمان، باب 8، ح 3. (1) " الكافي " ج 7، ص 350، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار، ح 8، " الفقيه " ج 4، ص 154، باب ما جاء فيمن أحدث بئرا أو غيرها في ملكه...، ح 5343، " تهذيب الاحكام " ج 10، ص 230، ح 908، باب ضمان النفوس وغيرها، ح 41، " وسائل الشيعة " ج 19، ص 182، أبواب موجبات الضمان، باب 11، ح 1. (2) راجع: " الكافي " ج 7، ص 383، باب من شهد ثم رجع عن شهادته، ح 2 - 5، و " وسائل الشيعة " ج 18، ص 238، أبواب الشهادات، باب 11 ح 1 و 2، وج 19، ص 69، أبواب القصاص في النفس، باب 62، وج 19، ص 194، أبواب موجبات الضمان، باب 24. (3) " القواعد الفقهية " ج 1، ص 270،
[ 34 ]
في الاصول - الذي هو من الادلة وقلنا بحجيته - هو عدم وجود دليل معتبر يمكن أن يكون هو منشأ ذلك الاطلاق، فلا شك في إطلاقها في كون إيجاد سبب الفناء والهلاك
بالمعنى الذي ذكرنا للسبب موجب الضمان قصد الموجد للسبب ترتب المسبب على فعله أو لم يقصد. نعم يلزم أن يصدق عليه ما أخذ موضوعا للضمان وهو عنوان " من حفر بئرا في غير ملكه فوقع فيها شئ فهو ضامن " وان قصد العدم أي حفر برجاء عدم وقوع أحد فيها. ولو اجتمع السبب والمباشر فهل الضمان على المباشر أو السبب أو على كليهما بالاشتراك؟ احتمالات: قال المحقق في الشرائع: إذا اجتمع السبب والمباشر قدم المباشر في الضمان على ذي السبب كمن حفر بئرا في ملك غيره عدوانا فدفع غيره فيها إنسانا فضمان ما يجنيه الدفع على الدافع. 1 وادعى جمع - على هذا القول - عدم الخلاف والاجماع وكان تقديم المباشر على السبب عندهم من المسلمات. والامر في هذه الفرع الذي ذكره المحقق وان كان كما ذكره لان الجناية مستند عرفا بل عقلا إلى الدافع وحفر البئر بالنسبة إلى هذه الجناية من المعدات التي لا توجب الضمان مع صدور الاتلاف عن الفاعل المختار وإلا كان صانع السيف ضامنا إذا قتل به المباشر شخصا وهذا مما لم يقل به أحد ولا يصح القول به قطعا. إلا أن جميع موارد اجتماع السبب والمباشر ليس من هذا القبيل مثلا لو وصف الطبيب دواء وكان سما قاتلا والممرض أعطاه للمريض فاتلفه ذلك السم ففي هذا المورد استناد الجناية إلى السبب أي الطبيب أقوى من المباشر خصوصا إذا كان
(1) " الشرائع " ج 3 ص 237.
[ 35 ]
الممرض جاهلا والطبيب عالما بانه سم قتال.
نعم إذا كان الممرض عالما بانه سم قتال فيكون هو الجاني. وكذلك في باب شهادة الزور التي تصير سببا لاتلاف نفس المشهود عليه أو ماله الضمان على السبب أي الشاهد الزور لاعلى المباشر أي الحاكم أو من يأتمر بامره وينفذ حكمه. وخلاصه الكلام في هذا المقام - أي فيما إذا اجتمع السبب والمباشر - أن المباشر إذا كان فاعلا مختارا عاقلا وكان ملتفتا إلى أن فعله هذا يترتب عليه التلف فلا شك في اختصاصه بكونه ضامنا في هذه الصورة وليس على ذي السبب ضمان أصلا. وأما لو يكن المباشر ذا إرادة وشعور فالضمان على ذي السبب وذلك كمن أجج نارا في غير ملكه والريح نشر النار فأصابت النار مال غيره فاحترق أو حفر بئرا في الطريق فدفعه حيوان أو مجنون إلى البئر ووقع فيها فتلف هو نفسه أو ماله ففي مثل هذه الصورة الضمان على ذي السبب لانه المتلف حقيقة والتلف حاصل بسبب فعله بالمعنى الذي ذكرنا للسبب. وأما إن كان عاقلا مختارا في فعله ولكن لم يكن يعلم بان فعله هذا يترتب عليه التلف فان لم يكن مغرورا ولا مكرها فأيضا الضمان عليه أي على المباشر لان هذه القاعدة مفادها أن من أتلف مال الغير فهو له ضامن سواء كان عالما بان فعله هذا يترتب عليه الاتلاف أو لم يعلم لان عدم العلم لا يؤثر في عدم الضمان إذ موضوع كون الضمان عليه هو الاتلاف مطلقا لا الاتلاف مع العلم بانه إتلاف. واما لو كان مغرورا كالممرض الجاهل فيرجع - بما خسره من باب ضمان الاتلاف - إلى الغار. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الغار عالما أو جاهلا بتغريره لهذا التلف. وأما إن كان مكرها فليس عليه ضمان إذا كان الاكراه في غير الدماء فإذا أكره على الدفع في البئر فمات فيضمن الدية أو يقاد إذا كان الدفع في البئر من الاسباب
[ 36 ]
العادية للموت لانه لا تقية في الدماء. وأما إذا أكره على إتلاف مال الغير فالضمان على المكره - بالكسر - لا على المتلف الذي هو مكره - بالفتح - لان السبب هنا أقوى من المباشر لان المباشر وان كان فاعلا ولكن ليس بمختار. ولذلك نقول ببطلان معاملات المكره من عقوده وايقاعاته والعرف والعقلاء ينسبون الفعل إلى المكره - بالكسر - ويسندون إليه كما أنه لو أمر المكره بهدم دار شخص خدامه وغلمانه الذين يخافون من مخالفته لا ينسب هدم الدار عند العرف إلا إلى ذلك المكره والناس يقولون إن فلانا - الذي هو المكره - هدم دار فلان لانه أمر غلمانه بذلك. وبناء على هذا لو أكره إنسانا على حفر البئر في الطريق فوقع فيها مال شخص وتلف ماله بذلك الوقوع ليس على الحافر ضمان بل الضمان على الآمر المكره. إذا ظهرت لك هذه المقدمة فنقول: ذكروا هيهنا فروعا كثيرة في كتبهم الفقهية واختلفوا في الحكم بالضمان وعدمه في بعض الموارد وانه على السبب في بعضها وعلى المباشر في موارد أخر ونحن نذكر جملة منها إن شاء الله تعالى وبتوفيقه: منها: أنه قال في الشرائع: لو ألقي صبيا في مسبعة أو حيوانا يضعف عن الفرار ضمن لو قتله السبع. 1 وهذا كلام حق لما ذكرنا من الضابط في كون الضمان على السبب دون المباشر وهو أن لا يكون المباشر فاعلا عاقلا بل يصدر عنه الفعل بدون ترو وتفكر في عواقبه لعدم قدرته على التروي والتفكر وان شئت عبر عن هذا بان السبب أقوى من المباشر كما عبر به في الشرائع. وبناء على هذا يكون لهذا الفرع نظائر كثيرة تشبهها في هذه العلة مثلا لو أعطى سكينا بيد مجنون فجرح أو قتل أو فتح باب الحبس على سبع ففرس انسانا أو
(1) " الشرائع " ج 3، ص 237.
[ 37 ]
حيوانا أو ألقى حية على نائم أو من ليس بنائم ولكن لا يقدر على التحرز عنها بقتلها أو فراره عنها فلدغته وأمثال ذلك من النظائر الكثيرة. ففي جميع هذه الموارد يكون الضمان على السبب لما ذكرنا ولعدم إمكان كون الضمان على المباشر لعدم العهدة في الحيوان أي السبع أو الحية المباشران للاتلاف حتى يكون الضمان عليهما. وأما ما ذكر في عنوان المسألة في الشرائع بانه لو ألقى صبيا فلعله باعتبار ضمان اليد وان الصبي يقع تحت اليد بخلاف الكبير أو لعل هذا التخصيص بلحاظ عدم قدرة الصبي على الفرار أو الدفاع بخلاف الكبير. فان كان بلحاظ الوجه الاول فهو واضح البطلان لان الحر لا يقع تحت اليد صغيرا كان أو كبيرا ولذلك لو أخذ ولدا صغيرا بالقهر عن وليه فمات حتف أنفه بدون أي تعد أو تفريط في حقه لم يكن ضامنا بخلاف ما لو كان الولد عبدا ومات ولو حتف أنفه وبآفة سماوية يكون ضامنا. وان كان بلحاظ الوجه الثاني فليس بمطرد ولا بمنعكس كما هو واضح ولا يحتاج إلى البيان فالحق أنه لافرق في هذه المسألة بين الصغير والكبير والحر والعبد والانسان والحيوان لان الكلام في ضمان الاتلاف لا ضمان اليد. فالمناط في الضمان إمكان التحرز بالدفاع أو الفرار وعدم إمكانه. ومنها: أيضا ما ذكر في الشرائع من أنه: لو غصب شاة فمات ولدها جوعا ففي الضمان تردد وكذا لو حبس مالك الماشية عن حراستها فاتفق تلفها وكذا التردد لو غصب دابة فتبعها الولد 1. ومنشأ التردد هو الترديد في صدق التسبيب في هذه الموارد الثلاث وفتاوى الفقهاء والاساطين مختلفة في هذه الموارد الثلاث ونظائرها جدا.
(1) " الشرائع " ج 3، ص 237.
[ 38 ]
فبعضهم يفتي بالضمان وبعضهم ينفي وبعضهم كصاحب الشرائع يقف عن الفتوى ويظهر التردد. وعلى كل حال أنت عرفت أن كون التسبيب موجبا للضمان مستفاد من تلك الروايات التي ذكرنا فلا بد من الحكم بالضمان في صدق ما أخذ موضوعا للضمان في تلك الروايات من دون أن ينجر إلى القياس. والعناوين المأخوذة في تلك الروايات موضوعا للضمان: أحدها: عنوان " كل شئ يضر بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه ". وهذا العنوان أجنبي عن الموارد الثلاث إلا أن يقال إن المناط في الضمان هو الاضرار بالمسلمين ولا خصوصية لكونه من طريق الطريق وهو لا يخلو من تأمل. الثاني: عنوان " من حفر بئرا في ملك غيره أو في الطريق فهو ضامن لما يسقط فيها ". ولا شك في أن هذه الموارد الثلاث ونظائرها ليست من مصاديق من حفر بئرا في ملك غيره أو من مصاديق من حفر بئرا في الطريق. أللهم إلا أن يقال: لا خصوصية لحفر البئر بل المراد إيجاد ما هو سبب تلف مال الغير في العادة مع وقوع التلف فعلا وترتبه على السبب وليس ببعيد. الثالث: ما جعل موضوعا للضمان في خبر السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام من قول رسول الله صلى الله عليه وآله: " من أخرج ميزابا أو كنيفا " 1 إلى آخر ما ذكره من الامور الخمسة. والانصاف أنه يستظهر من هذه الرواية قاعدة كلية وهى أن كل فعل صدر من فاعل عاقل مختار وكان سببا في العادة لوقوع تلف في مال المسلمين أو في نفسه ولم يتوسط بين ذلك الفعل والتلف فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار بحيث يكون التلف
(1) " الشرائع " ج 30، ص 238.
[ 39 ]
مستندا إليه عند العرف والعقلاء فهو - أي فاعل السبب - ضامن. وهذا استظهار لا قياس. وبناء على هذا يكون تحقق الضمان وثبوته في الموارد الثلاثة هو الحق ولا وجه للتردد. اللهم إلا أن يقال: إن الرواية ضعيفة من حيث السند لاشتراك هذا اللقب - أي السكوني - بين من هو موثوق إن كان المراد به إسماعيل بن مهران - وغير موثوق إن كان المراد منه هو إسماعيل بن أبي زياد فانه عامي. نعم ظهر لك مما ذكرنا - من أن الضمان يثبت فيما إذا كان الفعل المذكور سببا في العادة للتلف لا بصرف الاتفاق - أن حبس مالك الماشية لو كان سببا في العادة يكون موجبا للضمان وإلا لو اتفق ذلك كما هو مفروض الشرائع في هذا المورد فايجابه للضمان مشكل بل لا ينبغي القول به لعدم إطلاق في الرواية لكي يشمل مثل هذا الفرض. ومنها: ما قال في الشرائع أيضا من أنه: لو فك القيد عن الدابة فشردت أو عن العبد المجنون فابق ضمن لانه فعل يقصد به الاتلاف. وكذا لو فتح قفصا عن طائر فطار مبادرا أو بعد مكث 1. أما كون هذه الامور سببا للضمان واضح بناء على استفادة تلك القاعدة الكلية من الروايات، وهي أن كل فعل صدر من فاعل عاقل مختار - أي غير مكره على ذلك الفعل - وكان سببا لوقوع التلف في العادة والاغلب ولم يتوسط بينه وبين التلف فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار فهو أي موجد السبب ضامن لذلك التآلف ولا شك أن فك القيد عن الدابة الشرود خصوصا إذا كان حيوانا وحشيا مقيدا كالغزال من هذا
القبيل.
(1) " الشرائع " ج 3 ص 238.
[ 40 ]
ففك القيد عن الظبي المقيد عادة سبب لان يشرد ويتلف ولو بلحوقه إلى البرية فيصير حاله حال سائر الظباء الموجودة في البر فاعتبار الملكية فيها لغو. وهكذا فتح القفص من الطائر الوحشي وهكذا فك القيد عن العبد المجنون يوجب شروده وهو يوجب تلفه عادة ولم يتوسط بين فعله والتلف في الموارد الثلاثة فعل فاعل عاقل متعمد عن اختيار لان الدابة والطائر حال عدم عقلهما معلوم والثالث - أي المجنون - كون فعله عن عقل خلاف الفرض. نعم لو كان العبد المقيد الذي فك القيد عنه عاقلا فلا ضمان لانه توسط بين فعله - أي فك القيد عنه وتلفه - فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار فيكون هو بنفسه مباشرا لاتلاف نفسه وذلك مثل أن فك القيد عنه فالقى نفسه عن عمد واختيار عن السطح فمات. ومنها: أيضا في الشرائع لو فتح بابا على مال فسرق أو أزال القيد عن عبد عاقل فابق وكذا لو دل السارق على مال فسرق فلا ضمان في الجميع 1 لان في جميع هذه الصور توسط بين فعله والتلف فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار فهو المباشر في الاتلاف ومعه لا يسند التلف إلى السبب البعيد. نعم هو بفتح الباب إن كان ملتفتا إلى أنه يمكن أن يوجب السرقة وبدون إذن صاحب الباب وكذلك بالنسبة إلى إزالة القيد يكون آثما وكذلك في دلالته للسارق آثم قطعا للاعانة على الاثم إن دله بقصد أن يسرق. وحكى في الجواهر عن العلامة في الارشاد القول بالضمان فيما لو دل السارق. 2 والظاهر أنه متفرد في هذا القول ولم يوافقه أحد فيه.
ثم إن صاحب الجواهر ذكرها هنا فرعا 3 وهو أنه لو وجدت في البئر المذكورة -
(1) " الشرائع " ج 3، ص 238. (2) " جواهر الكلام " ج 37، ص 68. (3) المصدر.
[ 41 ]
أي البئر التي حفرها في الطريق أو في ملك غيره عدوانا وبدون إذن صاحبه - جثة حيوان ميت لا يعلم أن سبب موته هل هو وقوعه فيها كي يكون حافر البئر ضامنا له أو ألقيت ميتة فيها حتى لا يكون ضمان في البين؟ وحيث أن الضمان موضوعه موته وتلفه بسبب وقوعه فيها فإذا شك فيه يكون مجرى أصالة البرائه عن الضمان، واستصحاب حياته إلى زمان وقوعه مثبت. وأما لو علم بان سبب الموت وقوعه فيها ولكن يحتمل أن يكون بدفع شخص عن عمد واختيار بحيث يكون موجبا لسقوط الضمان عن ذي السبب وذلك لتوسط فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار بين ذلك السبب والتلف فالضمان يكون على المباشر المختار لا على ذي السبب. فربما يتوهم كون الضمان على ذي السبب بتوهم أصالة عدم دفع أحد له. ولكن أنت خبير بانه مثبت لان لازم عدم دفع أحد عقلا هو وقوع التلف والتردي بفعل ذي السبب خاصة. إلا أن يقال: إن موضوع الضمان مركب من كون موته بوقوعه فيها مع عدم دفع أحد فأحد جزئي الموضوع وهو الوقوع في البئر بالوجدان على الفرض والجزء الآخر أي عدم دفع أحد بالاصل فتأمل. ومنها: ما قال في الشرائع أيضا: ولو أزال وكاء الظرف فسال ما فيه ضمن إذا لم يكن يحبسه إلا الوكاء كما لو سال منه ما ألان الارض تحته فاندفع ما فيه ضمن بلا خلاف لان فعله سبب مستقل للاتلاف. أما لو فتح رأس الظرف فقلبته الريح أو
طائر أو ذاب بالشمس ففي الضمان تردد والاشبه أنه لا يضمن لان الريح والشمس كالمباشر فيبطل حكم السبب. 1 أقول: أما الاول أي إزالة الوكاء الذي هو عبارة عن الرباط الذي يشد به رأس القربة أو غيرها فالظاهر أنه من الاتلاف مباشرة فخارج عن محل الكلام لان فك
(1) " الشرائع " ج 3، ص 238.
[ 42 ]
الرباط عن القربة بحيث يكون موجبا لاسالة ما فيها من دهن أو لبن أو دبس أو غيره من المايعات يكون من قبيل المسبب التوليدي كالالقاء في النار والاحراق. ففك الرباط بعنوانه الاولي فك رباط وبعنوانه الثانوي هو إسالة المايع الذي في تلك القربة. وان أنكرت ذلك فلا أقل من أنه من باب العلة التامة والمعلول. هذا فيما إذا كان سيلان ما في الظرف مترتبا على إزالة الوكاء كما هو المفروض. وإلا لو لم يكن كذلك بل كان سيلان ما فيه متوقفا على أمر آخر زائدا على إزالة الوكاء كان يقلبه الريح أو طائر أو على إذابة الشمس له. فهو الشق الآخر الذي ذكره وقال فيه بعدم الضمان معللا بان الريح والشمس كالمباشر فيبطل السبب. وان كان هذا الكلام أيضا محل تأمل بل إشكال لما ذكرنا وتقدم بان كل فعل صدر من فاعل عاقل مختار وكان عادة سببا لوقوع التلف ولم يتوسط بين ذلك السبب والتلف فعل فاعل عاقل مختار وان توسط أمر آخر وعلة أخرى كالريح والطائر والشمس فيكون الضمان على ذي السبب. ولا يبطل حكم السبب إلا بتوسيط فعل فاعل عاقل مختار. فتلخص مما ذكرنا أن الضمان في مسألة إزالة الوكاء يكون من باب الاتلاف بالمباشرة وليس من قبيل الضمان بالتسبيب. وأما في مسألة فتح رأس الظرف واسالة ما فيه من المايع بواسطة إذابة الشمس لما فيه يكون من باب التسبيب.
نعم لو لم يكن فتح رأس الظرف سببا لوقوع التلف عادة وانما وقع التلف من باب الاتفاق كما أنه فتح رأس الظرف في الغرفة ومن باب الاتفاق دخل فيها طائر وقلبتها فلا ضمان في هذه الصورة كما أن في صورة تقليب الريح أيضا كذلك لو لم يكن الظرف في مهب الريح وعلى خلاف المتعارف والعادة هبت ريح وقلبته فأيضا لا ضمان لما ذكرنا من أن في الضمان بالتسبيب لا بد وان يكون فعل ذي السبب سببا لوقوع التلف بحسب العادة لا بصرف الاتفاق.
[ 43 ]
وأما مسألة إلانة الارض تحته لا سالة الماء منه بواسطة إزالة الوكاء فهذا من قبيل معلول المعلول فان كان إزالة الوكاء علة لاسالة الماء منه واسالة الماء منه علة لا لانة الارض تحته وإلانة الارض تحته علة لانقلابه وتلف ما فيه فبايجاد السبب الاول تترتب عليه الاسباب الطولية ويكون حالها حال السبب الاول فيمكن أن يقال إن هذا أيضا من الاتلاف مباشرة. ومنها: أيضا ما هو في الشرائع قال قدس سره ولو أرسل في ملكه ماء فأغرق مال غيره أو أجج نارا فاحرقته لم يضمن ما لم يتجاوز قدر حاجته إختيارا مع علمه أو غلبة ظنه إن ذلك موجب للتعدي إلى الاضرار 1. وفي هذه المسألة صور: إحديها: هذه التي ذكرها في الشرائع. الثانية: عين هذه الصورة إلا أنها مع التجاوز عن قدر الحاجة. الثالثة: أن لا يكون له علم ولا غلبة الظن بالتعدي إلى الاضرار مع عدم التجاوز عن قدر الحاجة. الرابعة: فيما إذا تجاوز عن قدر الحاجة ولكن لا علم له ولا ظن بالتعدي. الخامسة: عين هذه الصورة الرابعة ولكن مع العلم بعدم التعدي.
السادسة: عين هذه الصورة الخامسة ولكن مع عدم التجاوز عن قدر الحاجة. وفي جميع هذه الصور الست المفروض وقوع التلف وإلا لم يكن محل للبحث في أنه يضمن أو لا يضمن. أقول: أقوال الفقهاء المحققين والاساطين في هذه المسألة مختلفة جدا فليس في المسألة إجماع على الضمان ولا على عدمه فنتكلم فيما هو مقتضى القواعد
(1) " الشرائع " ج 3، ص 237.
[ 44 ]
الاولية فنقول: أما الصورة الاولى التي ذكرها في الشرائع فمع علمه بالاضرار وان فعله هذا يكون سببا لتلف مال الغير فلا وجه لتخيل عدم الضمان بصرف إذن الشارع في هذه الفعل لان الاذن الشرعي لا يرفع الآثار الوضعية فلو أذن الشارع في أكل الميتة من باب الاضطرار فلا يرفع هذا الاذن نجاستها. بل يمكن أن يقال: إن هذه الصورة من مصاديق الاتلاف مباشرة وليس من التسبيب لانه إذا علم أنه يترتب على فعله هذا غرق مال الغير أو إحتراقه أو جفاف شجر الجار القريب من النار التي أججها ولو كانت النار في ملكه فهو من مصاديق الاتلاف بالمباشرة حقيقة. هذا مع أن كونه مأذونا في إرسال الماء في ملكه أو تأجيج النار فيه في هذه الصورة كلام بيناه في قاعدة لاضرر. وأما القول بان قاعدة الاتلاف لم ترد بهذه الالفاظ في رواية من من طرقنا وان اشتهرت في الالسنة والافواه فليست دليلا لفظيا كي نتمسك باطلاقها كما ذكره صاحب الجواهر. 1 ففيه أنه بينا في صدر البحث عن هذه القاعدة وقلنا إننا وان لم نجد رواية بهذه
الالفاظ لا من طرقنا ولا من طرق الجمهور، ولكن مضمون هذه القاعدة مروية بالسنة مختلفة فتكون من القواعد المصطادة من الموارد المختلفة من الروايات مضافا إلى كونها بهذه الالفاظ من المسلمات بين الخاصة والعامة ولا يزال يستدل الفقهاء عموما بهذه القاعدة على الضمان في الموارد الجزئية المشكوكة. فلو سلمنا أن مدركها الاجماع فقط يكون معقده مطلق فيكون حالها حال الدليل اللفظي فيتمسك باطلاقها.
(1) " جواهر الكلام " ج 37، ص 60.
[ 45 ]
والانصاف أن هذه الفتوى من مثل المحقق قدس سره شيخ الفقهاء لا يخلو من غرابة وان أسند هذا القول في المسالك إلى العلامة في القواعد والارشاد أيضا 1. وأما الصورة الثانية فتكون سببا للضمان بطريق أولي ولا يحتاج إلى التوضيح والبيان. وأما الصورة الثالثة أي فيما لا يعلم بالتعدي ولا يظن ولم يتجاوز قدر الحاجة فهذه الصورة على قسمين: فتارة ترتب التلف على هذا الفعل ليس غالبيا وبحسب العادة وانما قد يقع اتفاقا لعارض كما أنه من باب الاتفاق هبت ريح بخلاف العادة والمتعارف فاثرت النار في مال الجار. فالظاهر عدم الضمان في هذه الصورة لا لانه مأذون في هذا الفعل لما ذكرنا من أن الاذن لا يرفع الضمان بل لما اشترطنا من أن الضمان لا يكون إلا فيما إذا كان الفعل الصادر عن ذي السبب سببا في الاغلب وبحسب العادة. واخرى يكون غالبيا وبحسب العادة فالظاهر أنه يضمن لان فعله سبب غالبي لوقوع التلف كما أنه في يوم هبوب الريح
لو أجج نارا ولكن لم يحصل له علم ولاظن بالتعدي إلى الاضرار بالجار لغفلته أو بلاهته مع أن التعدي في مثل ذلك اليوم لم يكن اتفاقيا بل كان أمرا عاديا متعارفا ففعله هذا سبب عادي للتلف ولم يتوسط بينه وبين التلف فعل فاعل عاقل مختار الذي هو الضابط في استناد التلف إلى السبب. وأما الصورة الرابعة فيضمن بطريق أولي لان المفروض أنه تجاوز عن قدر الحاجة.
(1) " مسالك الافهام " ص 257.
[ 46 ]
وأما الصورة الخامسة فعمدة الوجه في القول بعدم الضمان فيها هو العلم بعدم التعدي. ولكن هذا العلم ليس له أثر لانه على الفرض أوجد سبب التلف الذي هو سبب الضمان ولكن باعتقاد أنه لا يتلف وقد تبين خطأ اعتقاده وانه جهل مركب فما ذكرنا من الضابط في استناد التلف إلى فعله تحقق فيكون ضامنا. واما الصورة السادسة وهي أن لا يتجاوز قدر الحاجة مع علمه بعدم التعدي فإذا كان وقوع التلف اتفاقيا وليس فعله سببا غالبيا لوقوع التلف فلا يضمن لما بينا من اشتراط الضمان بكون فعل ذي السبب سببا غالبيا وإذ ليس فليس. وأما لو كان سببا غالبيا وهو علم بعدم التعدي لغفلته أو بلاهته فيضمن لما ذكرنا في القسم الثاني من الصورة الثالثة. ومنها: ما في التذكرة من أنه: لو فتح القفص أو حل قيد الفرس أو العبد المجنون فبقيا واقفين فجاء إنسان ونفرهما فذهبا فالضمان على منفرهما لان سببه أخص فاختص الضمان به كالدافع والحافر. 1 ولعل مراده بقوله: " لان سببه أخص " أن فعل المنفر لا ينفك عن فرارهما بخلاف فتح القفص بالنسبة إلى الطائر وحل القيد بالنسبة إلى الفرس والعبد المجنون فانه
يمكن أن لا يتعقب بفرار الطائر في فتح القفص وأن لا يتعقب بفرار الفرس والعبد المجنون بالنسبة إلى حل قيدهما فكأنه أراد بذلك أن النفر جزء الاخير من العلة التامة لفرارهما. وأما فتح القفص بالنسبة إلى الطائر الواقف بعد الفتح وكذلك حل القيد بالنسبة إلى الفرس والعبد المجنون الواقفين بعد حل القيد من قبيل المعد. ولا شك في أن استناد المسبب إلى العلة التامة أو الجزء الاخير منها أولي من استناده إلى المعد كما أن في مسألة الحافر والدافع يكون الامر كذلك أيضا فالاستناد
(1) " تذكرة الفقهاء " ج 2، ص 375.
[ 47 ]
إلى الدافع الذي هو الجزء الاخير من علة التلف أولى من استناده إلى المعد الذي هو حفر الحافر. هذا ما قاله في التذكرة مع ما فسرنا به كلامه قدس سره. ولكن أنت عرفت مما ذكرنا في مقدمة هذه الفروع أن من شرائط كون الضمان على السبب هو أن لا يتوسط بين فعل ذي السبب وبين التلف فعل فاعل عاقل مختار وإلا ينسب إلى ذلك الفاعل لا إلى السبب وذلك واضح جدا. وفيما نحن فيه وقع ذلك التوسط بين السبب الذي هو عبارة عن فتح القفص وعن حل القيد وبين الفرار فعل الفاعل العاقل المختار وهو تنفير ذلك الانسان فينسب الفرار إليه لا إلى فتح القفص أو حل القيد. ومنها: أيضا ما في التذكرة من أنه: لو حل رباط سفينة فذهبت أو غرقت بالحل ضمن لانه سبب في الاتلاف سواء كان يعقب فعله أو تراخى. 1 ونظير هذا الفرع تقدم من أنه لو فك القيد عن الدابة فشردت أو عن العبد المجنون فابق وقلنا: يستفاد من الروايات قاعدة كلية. وهي أن كل فعل صدر عن الفاعل
العاقل المختار وكان سببا لتلف شئ ولم يتوسط بينه وبين المسبب - أي التلف - فعل فاعل عاقل مختار فيكون التلف مستندا إلى ذي السبب والضمان عليه. فبناء على هذا حيث أن حل رباط السفينة يكون سببا لذهابها إلى عرض البحر فيوجب غرقها أو ضياعها. فبمقتضى تلك القاعدة يكون الضمان على الذي حل الرباط ولا فرق بين حدوث حادث آخر كهبوب الرياح الشديدة والعواصف الموجبة لغرقها وبين عدم حدوث حادث آخر يوجب ذلك وذلك لما بينا من الضابط في الاستناد إلى السبب فانه حاصل ولا يفرق في كلا المقامين. نعم لو لم يكن هذا الفعل - أي حل رباط السفينة -
(1) " تذكرة الفقهاء " ج 2 ص 375.
[ 48 ]
سببا للغرق أو الضياع في العادة بل حدث عاصفة شديدة من باب الاتفاق فيمكن أن يقال بعدم الضمان في مثل هذه الصورة وقد تقدم جميع ذلك. ومنها: ما ذكر في التذكرة أيضا من أنه لو وثبت هرة حال فتح القفص ودخلته وقتلت الطائر لزمه الضمان لان الفتح يشتمل على إغراء الهرة كما في تنفير الطائر 1. والتشبيه بالتنفير لا يخلو من تأمل لان التنفير في حال انفتاح القفص من قبيل العلة التامة بالنسبة إلى طيرانه وفراره بخلاف فتح القفص فيما إذا لم تكن هرة هناك ولكن من باب الاتفاق وجدت هرة حال الفتح. اللهم إلا أن يقال: إن فرض المسألة في صورة وجود الهرة هناك قبل الفتح وهي بحيث لا مانع من و ثوبها على الطائر إلا انسداد باب القفص فيكون التشبيه في محله. وأما الضمان: ففي المفروض على فاتح القفص على كل حال لما ذكرنا من الضابط. إلا أن يقال: إن فتح باب القفص ليس سببا غالبيا لو ثوب الهرة. وجوابه: أن المفروض حضور الهرة حال فتح القفص وفي مثل هذه الصورة سببية
الفتح لوثوبها واتلاف الطائر غالبي. ومنها: أيضا ما في التذكرة من أنه لو كان شعير في جراب وبجنبه حمار ففتح فاتح رأسه فأكله الحمار في الحال لزمه الضمان. 2 وهذا الفرع من جميع الجهات التي ذكرناها مثل الفرع السابق فلا نعيد. ولا أرى وجها لذكره بعد ذكر الفرع السابق كما لا أرى وجها لتقييد قوله: " فأكله الحمار " بكلمة " في الحال " إلا تخيل أنه لو لم يكن أكله في الحال فليس الاكل مستندا إلى فتح رأسه وإنما هو مستند إلى التفات الحمار بعد غفلته عنه أو إلى حدوث اشتهائه وهو غريب.
(1) " تذكرة الفقهاء " ج 2، ص 375. (2) المصدر.
[ 49 ]
ومنها: ما ذكره في التذكرة أيضا وهو أنه: لو نقل صبيا حرا إلى مضيعة فاتفق أن افترسه سبع فلا ضمان عليه. 1 وذلك أن النقل إلى المضيعة ليس مثل النقل إلى المسبعة لان النقل إلى المسبعة - أي محل السباع - سبب غالبي لافتراسه. وأما النقل إلى المضيعة فليس سببا غالبيا ولو افترسه السبع كان من باب الاتفاق وقد إشترطنا في السبب الموجب للضمان أن يكون سببا غالبيا للتلف لان المضيعة عبارة عن محل الضياع وعدم الاعتناء بشأن من يسكنه وان تهمل شؤونه. ومنها: ما ذكره في جامع المقاصد من أنه لو منع المالك من إمساك دابته المرسلة حيث يتوقع تلفها مع بقائها مرسلة. كما أنه لو أرسلت في الليل في برية ولا تكون تلك الدابة من الحيوانات القوية التي تقدر على حفظ نفسها من السباع أو لم تكن الارض مأمونة من الاخطار فحينئذ يكون إمساك المالك سببا لبقائها مرسلة وبقاؤها مرسلة ربما ينتهي إلى افتراسها أو تلفها من جهة أخرى. 2
هذه جملة مما ذكره أساطين الفن من فروع الضمان بالتسبيب سواء لم يكن إتلاف بالمباشرة في البين أصلا أو كان ولكن كان ضعيفا. ولكن كل هذه الفروع كانت فيما إذا كان السبب واحدا. أما إذا تعدد السبب سواء كانا إثنين أو أكثر فاما يكونان وجدا في عرض واحد وإما مترتبان في الوجود. أما الاول: فهما أو كلهم إن كانو أكثر من إثنين يشتركون في الضمان وذلك كما أنه لو حفر جماعة بئرا في الطريق فوقع فيها دابة أو مال آخر لان اختصاص بعضهم بالضمان دون بعض ترجيح بلا مرجح. وأما الثاني: أي فيما إذا كانا مترتبين في الوجود فحوالة الضمان على أولهما وجودا وذلك لان مع وجود أولهما تحقق ما هو سبب الضمان ولا يرفع حكمه - أي كونه سببا
(1) " تذكرة الفقهاء " ج 2، ص 376. (2) " جامع المقاصد " ج 6، ص 219.
[ 50 ]
للضمان - إلا بتوسيط فعل فاعل عاقل مختار بينه وبين التلف والمفروض أنه ليس في المقام. فلو حفر أحدهما بئرا في الطريق أو في ملك غيره بدون إذنه ورضاه، فوضع بعد ذلك شخص آخر حجرا في حافة تلك البئر فعثرت دابة بواسطة ذلك الحجر ووقعت في تلك البئر فالضمان على الحافر لما ذكرنا من الضابط. والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
[ 51 ]
16 - قاعدة الاشتراك
[ 53 ]
قاعدة الاشتراك * ومن جملة القواعد الفقهية قاعدة " اشتراك المكلفين في الحكم رجالا ونساء إلى قيام يوم القيامة " أي ما دام بقاء هذه الشريعة المقدسة. وبعبارة أخرى: إذا ثبت حكم لاحد المكلفين أو لطائفة منهم - سواء كان ثبوته بخطاب لفظي أو دليل لبي من إجماع أو غيره - فيكون شاملا لجميع المكلفين في جميع الازمنة إلى قيام يوم القيامة إلا أن تكون مأخوذا في الموضوع خصوصية وقيد لا ينطبق إلا على شخص خاص أو طائفة خاصة أو في زمان خاص كزمان حضور الامام عليه السلام مثلا وفي هذه القاعدة جهات من البحث: الجهة الاولى في مداركها وهي أمور: الاول: الاستصحاب بضميمة عدم القول بالفصل بين الحاضرين في زمان التكليف بمعنى أن الشارع إذا أمر شخصا أو طائفة بفعل من الافعال أو نهى عن إرتكاب أمر
*. " الاصول الاصلية والقواعد الشرعية " ص 310، " عناوين الاصول " عنوان 1، " اصول الاستنباط بين الكتاب والسنة " ص 115، " القواعد " ص 41، " قواعد فقهي " ص 227، " القواعد الفقهية " (فاضل اللنكراني) ص 295، " قواعد الفقيه " ش 32، ص 61.
[ 54 ]
كذلك فجميع الموجودين في ذلك الزمان محكومون بذلك الحكم. فإذا قال الراوي السائل عن الامام عليه السلام: نسيت أن في ثوبي أو بدني نجاسة وبعد الفراغ ذكرت ذلك؟ فقال عليه السلام: إغسل ثوبك أو بدنك واعد الصلاة، نعلم بان جميع الموجودين في زمان جواب الامام عليه السلام محكومون بهذا الحكم وليس مختصا بنفس
السائل. فإذا تبين اتحاد الموجودين في زمان صدور ذلك الحكم بالقطع واليقين الوجداني فان حصل شك في بقاء ذلك الحكم في الازمنة المتأخرة وبالنسبة إلى الموجودين بعد ذلك الزمان يستصحب فيثبت بقاؤه تعبدا وبحكم الشارع. وفيه: أولا: أن الخطاب إذا كان متوجها إلى شخص خاص أو طائفة مخصوصة فمن أين نعلم باتحاد الموجودين في هذا الحكم وهو أول الكلام ومصادرة على المطلوب. وثانيا: إذا علمنا اتحاد الموجودين في ذلك الحكم مع من توجه إليه الخطاب فنعلم باتحاد الجميع أي سواء كانوا موجودين أو معدومين لانه لا خصوصية لوجودهم في ذلك الزمان فلا يبقى مجال ومورد للاستصحاب لان موضوع الاستصحاب هو الشك في البقاء وأما مع القطع بالبقاء فلا موضوع له حتى يجري. وثالثا: أدلة اللفظية على بقاء أحكام هذه الشريعة إلى قيام يوم القيامة حاكمة على هذا الاستصحاب. الثاني: الاتفاق القطعي من الاصحاب على اشتراك الجميع في جميع الاعصار والامصار في الحكم المتوجه إلى بعض آحاد المكلفين فانهم - رضوان الله تعالى عليهم - يستدلون من الصدر الاول وأول زمان تأليف الفقه في كتبهم - ككتب ابن الجنيد وابن أبي عقيل القديمين إلى زماننا هذا على الحكم الشرعي لكل واحد من آحاد المكلفين وفي أي زمان كانوا بالخطابات الخاصة المتوجهة إلى شخص خاص
[ 55 ]
كقوله عليه السلام لزرارة أو محمد بن مسلم أو غيرهما في مورد خاص: " إغسل " أو " أعد الصلاة " وأمثال ذلك. والانصاف أنه يستكشف من هذا كشفا قطعيا بأنه كان من المسلم المقطوع عندهم
اتحاد جميع المكلفين في جميع الاحكام إلا أن يكون موضوع ذلك الحكم مقيدا بقيد حاصل في البعض دون البعض كقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) 1 فان موضوع وجوب الحج قيد بقيد وهو أن يكون الشخص مستطيعا فمن لم يكن كذلك لا يجب عليه الحج ولكن بعد وجود موضوعه أي الانسان العاقل البالغ الحر المستطيع يشترك في هذا الحكم جميع أفراد هذا الموضوع ومصاديقه في أي عصر ومن أي مصر كانوا. فليس المراد من الاشتراك إلا أن كل من ينطبق عليه عنوان " موضوع الحكم " فهو محكوم بذلك الحكم وإلا فكيف يمكن أن يقال: إن من لا يكون من مصاديق موضوع الحكم يثبت له هذا الحكم؟ وهل هذا إلا خلف ومناقضة؟! ومثل هذا الاتفاق القطعي كاشف قطعي عن اتحاد حكم الجميع عندهم عليهم السلام. ولذلك ترى لم يناقش أحد في استدلالهم بالقضايا والخطابات الشخصية لحكم الجميع بل تلقوه بالقبول. نعم ربما يناقشون في أدلتهم من جهات أخر كما هو المتعارف في الابحاث الفقهية. الثالث: إرتكاز عامة المسلمين حتى العوام بأن حكم الله في هذه الواقعة واحد للجميع. ولذلك ترى أن أحدهم لو سئل عن الامام عليه السلام أو عن مقلده حكما شرعيا لموضوع أو لفعل من الافعال وسمع ذلك الحكم غيره ممن هو مثله لا يتأمل ولا يتردد في ثبوته في حقه ولا يحتمل أن يكون حكم الله في حق ذلك السائل غير حكم الله
(1) آل عمران (3): 97.
[ 56 ]
في حقه فهذا المعنى أي وحدة التكليف واشتراكه بين جميع المكلفين شئ مرتكز في أذهان جميعهم ولا يمكن ذلك إلا بوصوله إليهم من مبدأ الوحي والرسالة ثم من
هؤلاء إلى من بعدهم وهكذا إلى زماننا. ولعل إلى هذا ينظر كلام بعض المحققين حيث يقول: والقول بأن الكون في زمان النبي صلى الله عليه وآله دخيل في اتحاد الصنف الذي هو شرط شمول الخطابات هدم لاساس الشريعة وذلك من جهة أن الاحكام إن كانت مخصوصة بالحاضرين في مجلس النبي صلى الله عليه وآله المخاطبين أو مطلق الموجودين في ذلك الزمان فقط فانتهى أمر الدين - العياذ بالله - وتكون الناس بعد ذلك كالبهائم والمجانين. وهذا أمر باطل بالضرورة لانه يوجب هدم أساس الدين. فادعاء الضرورة على اشتراك الجميع في التكاليف لا بعد فيه بل هو كذلك. وهذا لا ينافي اختصاص بعض التكاليف ببعض الطوائف دون بعض بل ببعض الاشخاص دون سائرين لان المراد من الاشتراك عدم اختصاص التكليف بمن توجه الخطاب إليه كما أشرنا إلى ذلك وقلنا: إن قوله عليه السلام لزرارة أو محمد بن مسلم مثلا " أعد " أو " اغسل " أو " لا يعيد " مثلا ليس من جهة اختصاص ذلك الحكم بهما وأمثالهما من الرواة ونقلة الاحاديث بل توجيه الخطاب إليهما أو إلى غيرهما من باب أنهم من مصاديق طبيعة المكلفين ويبينون حكم المسألة بهذه الصورة. وهذا لا ينافي كون موضوع الحكم - أي المكلف - مقيدا ببعض القيود أو متصفا ببعض الصفات أو كونه من طائفة خاصة من الطوائف أو كونه من النساء أو من الرجال وأمثال هذه الاختلافات بل لابد منها لعدم كون الاحكام جزافية بل تابعة للمصالح والمفاسد التي في متعلقاتها وموضوعاتها. والموضوعات والمتعلقات تختلف من حيث المصلحة والمفسدة باعتبار اختلاف قيودها وأوصافها وحالاتها كالحرية والرقية والاستطاعة وعدمها والسفر والحضر
[ 57 ]
وغير ذلك من العوارض والحالات الطارئة على المكلفين.
فباعتبار وجود صفة الاستطاعة مثلا يكون صدور الحج من المكلف له مصلحة ملزمة فهذه الصفة توجب وجوب الحج على المكلف فلابد من تقييد الموضوع بهذا القيد ولذلك قيد وجوب الحج في الآية الشريفة بهذا القيد وقال الله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) 1. وخلاصة الكلام في المقام أن اختلاف الاحكام بالنسبة إلى المكلفين باختلاف القيود والصفات والحالات الطارئة على الموضوعات من أوضح الواضحات. فليس المراد من قاعدة الاشتراك أن جميع المكلفين سواء كانوا واجدين لقيود موضوع الحكم أم لم يكونوا واجدين حكمهم سواء لان بطلان هذا الكلام ضروري. بل المراد أن الحكم الذي رتب على موضوع يشمل جميع من هو ينطبق عليه الموضوع؟ أم مختص بمن توجه إليه الخطاب؟ أو بمن يكون موجودا في زمان الخطاب؟ وكذلك القضايا الشخصية التي يسأل الراوي الفلاني عن حكمها هل يكون جواب الامام عليه السلام مختصا بنفس السائل؟ أو يكون عاما لكل من ينطبق عليه موضوع الحكم الذي صدر عنه عليه السلام في مقام الجواب؟ وبعبارة أخرى: يكون الخطاب إلى السائل بعنوان أنه أحد مصاديق موضوع الحكم لا بعنوانه الشخصي. الرابع: الاخبار الواردة في هذا الباب الدالة على أن حكم الله تعالى مشترك بين الكل وخصوصية الاشخاص - أي العوارض المشخصة لهم - لا دخل لها في كونهم موضوعا للاحكام ككونه ابن فلان أو لونه كذا أو من الطائفة الفلانية وأمثال ذلك. وبعبارة اخرى: الدين الاسلامي عبارة عن مجموع الاحكام المكتوبة في الكتب الفقهية من الطهارات إلى الديات التي أساسها في القرآن الكريم مع شرح وايضاح
(1) آل عمران (3): 97.
[ 58 ]
وبيان من الاحاديث النبوية أو التفاسير التي صدرت عن الائمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين. وهذه الاحكام لم يجعل لشخص خاص أو لطائفة خاصة بل مجعولة لكافة المسلمين بل لجميع ولد آدم من زمان بعثته صلى الله عليه وآله إلى يوم القيامة وليس مخصوصا بزمان دون زمان. وهذا لا ينافي اختصاص النبي صلى الله عليه وآله ببعض الاحكام لان الاحكام - كما قلنا - تابعة للمصالح والمفاسد وذلك الوجود المقدس لامتيازه عن سائر البشر وبلوغه إلى أعلى مراتب الكمال صار موضوعا للاحكام الخاصة به صلى الله عليه وآله. بل يمكن أن يقال: إن تلك الاحكام الخاصة أيضا ليس موضوعها شخص النبي صلى الله عليه وآله بل لعنوان كلي وهو من بلغ إلى هذه المرتبة من الكمال غاية الامر أن الكلي منحصر في الفرد إذ غيره صلى الله عليه وآله لم يصل إلى هذه المرتبة ولن يصل إلى آخر الدهر. وهاهنا تحقيق دقيق في معنى الخاتمية وانها ليست قابلة للتعدد، ليس المقام مقام ذكره. وعلى كل حال كان كلامنا في ذكر الاخبار التي تدل على اشتراك الاحكام بين جميع المكلفين وعدم اختصاصها بالمخاطبين أو الموجودين في زمان الخطاب: فمنها: ما رواه في الوسائل عن محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن بكر بن صالح عن القسم بن يزيد الزبيدي عن أبي عمرو الزهري عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل في كتاب الجهاد في باب من يجوز له جمع العساكر والخروج بها إلى الجهاد قال عليه السلام فيه بعد كلام طويل في شرائط من يتصدى لجمع العساكر للجهاد: " لان حكم الله عزوجل في الاولين والآخرين وفرائضه عليهم سواء إلا من علة أو حادث يكون والاولون والآخرون أيضا في منع الحوادث شركاء والفرائض عليهم واحدة يسأل الآخرون من أداء الفرائض عما يسأل عنه
[ 59 ]
الاولون ويحاسبون عما به يحاسبون " 1. وظهور هذه الجملات والكلمات في اشتراك جميع المكلفين من الاولين والآخرين في أحكام الله وفرائضه واضح لان كلمة " الاولين والآخرين " جمع معرف بالالف واللام يفيد العموم فمعنى الحديث عبارة عن أن كل واحد من الاولين سواء في حكم الله عزوجل مع كل واحد من الآخرين وجميع الفرائض عليهم - أي على جميع الاولين والآخرين - واحدة. وهذا أفصح وأوضح عبارة لاتحاد حكم جميع الامة من الاولين والآخرين. نعم المراد من الاتحاد أو الاشتراك اشتراك من كان من مصاديق موضوع الحكم كما تقدم شرحه. والظاهر أن هذا مراد من اعتبر في الاشتراك اتحاد الصنف. ومنها: النبوي المشهور، قال صلى الله عليه وآله: " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " 2. فان ظاهر هذه الجملة أن حكمي الذي هو حكم الله على أحدكم حكمي على الجميع بمعنى أنه ما أخص أحدا بالحكم بل كلكم في حكمي سواء. هذا هو المتفاهم العرفي والظاهر من هذا الحديث الشريف، ولا شك في حجية ظواهر الالفاظ والجمل فيدل هذا الحديث المبارك على المطلوب وهو المطلوب. ومنها: قوله عليه السلام في الخبر المشهور: " حلال محمد صلى الله عليه وآله حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة " 3. تقريب الاستدلال بهذه الرواية أن بقاء الحلال والحرام إلى آخر الازمنة من حياة
(1) " وسائل الشيعة " ج 11، ص 23، أبواب جهاد العدو وما يناسبه، باب 9، ح 1. (2) " بحار الانوار " ج 2، ص 272، باب ما يمكن ان يستنبط من الايات والاخبار...، ح 4، وج 80، ص 199، باب آداب الاستنجاء والاستبراء، ح 4.
(3) " الكافي " ج 1، ص 58، باب البدع والرأي والمقائيس، ح 19، وج 2، ص 17، باب الشرائع، ح 2، " وسائل الشيعة " ج 18، ص 124، أبواب صفات القاضي، باب 12، ح 47.
[ 60 ]
البشر معناه أن الناس في جميع الازمنة سواء في أن حلاله على أهل الزمان المتقدم حلال على أهل الزمان المتأخر وكذلك حرامه صلى الله عليه وآله. فإذا كان مفاد الرواية وظاهرها اتحاد أهالي أزمنة المتأخرة مع أهالي أزمنة المتقدمة في الحكم فتدل على اتحاد أهالي الزمان الواحد في الحكم بطريق أولى إذ مرجع مفاد الرواية إلى أن خصوصيات الشخصية لافراد المكلفين ليست دخيلة فيما هو الموضوع بعد اتحادهم في الصنف بالمعنى الذي تقدم. وأما احتمال أن يكون مفاد الرواية هو الاتحاد في خصوص الحلية والحرمة لا في جميع الاحكام فعجيب إذ الحلال والحرام كناية عن مطلق الاحكام مضافا إلى أن مآل جميع الاحكام ومرجعها إلى الحلال والحرام لان الواجب تركه حرام وفعله حلال بالمعنى الاعم كما أن المستحب والمكروه فعلهما وتركهما حلال بالمعنى الاعم كما أن الحلال بالمعنى الاخص أيضا كذلك مثل المستحب والمكروه. فالحلال والحرام يستوعبان جميع الاحكام التكليفية كما أن الاحكام الوضعية أيضا تنتهي من حيث العمل إلى الحلال والحرام بالمعنى الذي ذكرنا لهما فافهم. ومنها: قوله صلى الله عليه وآله: " فليبلغ الشاهد الغائب " 1. ولا شك في دلالة هذا الحديث الشريف على اشتراك الغائبين مع الحاضرين وإلا لو كان الحكم خاصا بالحاضرين لما كان وجه لتبليغهم لانه كان من تبليغ حكم غيرهم إليهم فلابد وان يكون الحكم مشتركا بينهم حتى يأمر صلى الله عليه وآله وسلم الحاضرين بتبليغه إلى الغائبين. وأما احتمال أن يكون مخصوصا بجماعة خاصة من الغائبين مع الحاضرين لا عموم
الغائبين.
(1) " الكافي " ج 1 ص 187، باب فرض طاعة الائمة، ح 10، وج 1، ص 291، باب ما نص الله عزوجل على الائمة عليهم السلام واحدا فواحدا، ح 6، " تهذيب الاحكام " ج 4، ص 143، ح 399، باب الزيادات، ح 21، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 435، أبواب صلاة الجماعة، باب 36، ح 9.
[ 61 ]
يدفعه: أن ظاهر هذا الكلام هو الامر بتبليغ الحكم إلى عموم الغائبين بل وحتى المعدومين في ذلك الزمان الذين يوجدون فيما بعد فضلا عن الغائبين الموجودين في أماكن مختلفة ومن بلاد متعددة بعيدة أو قريبة. والحاصل: أن المتفاهم العرفي من أمثال هذه العبارة أن الحاضر والغائب بل الموجود فعلا ومن يوجد فيما بعد سواء وهو المطلوب. ومنها: قوله صلى الله عليه وآله: " أوصي الشاهد من أمتي والغائب منهم ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة أن يصلوا الرحم " 1. وهذا الحديث نص في العموم ولكن ربما يستشكل بانه لا يدل إلا على اشتراك الامة جميعا في هذا الحكم فقط أي وجوب أو استحباب صلة الرحم وأما الاشتراك في سائر الاحكام فساكت عنه. أللهم إلا أن يقال: لا خصوصية لصلة الرحم من بين سائر الفرائض أو يقال: هذا اللسان - أي لسان الوصية إلى الامة في حكم من الاحكام - هو لسان اشتراك الامة في الاحكام الشرعية وكلهم في ذلك سواء. ويمكن أن يستدل للمطلب ببعض الآيات مثل قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) 2 ومثل قوله تعالى: (فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) 3، وكذلك بكثير من الروايات الواردة من أخذ معالم الدين من يونس بن عبد الرحمن 4 وزكريا بن آدم 5 وأمثالهما من الثقات وارجاعهم
الناس إلى هؤلاء من الرواة ونقلة الحديث ولا شك في أن هؤلاء لم يتعلموا من الامام عليه السلام في كل موضوع إلا حكما واحدا متعلقا بالجميع وكانوا يذكرون ذلك
(1) " الكافي " ج 2، ص 151، باب صلة الرحم، ح 5. (2) النساء (4): 11. (3) " التوبة " (9): 122. (4) " وسائل الشيعة " ج 18، ص 107، أبواب صفات القاضي، باب 11، ح 33، 34 و 35. (5) " وسائل الشيعة " ج 18، ص 106، أبواب صفات القاضي، باب 11، ح 27.
[ 62 ]
الحكم الواحد لكل من يسأل عن ذلك الموضوع أو عن تلك الواقعة ومع ذلك أرجع الامام عيله السلام جمع الشيعة إليهم في أخذ أحكامهم الشرعية. وهذه الروايات يمكن إدعاء القطع بصدور بعضها منهم عليهم السلام فما نسب إلى بعض المحققين من ادعاء تواتر الاخبار على الاشتراك بالمعنى الذي هو الآن محل الكلام ليس بكل البعيد بل المتتبع يجد ذلك من ملاحظة جميع الاخبار الواردة في هذا الباب. الخامس: وهو الوجه الوجيه وما هو التحقيق عندنا: أن جعل الاحكام من الازل على الموضوعات المقدرة الوجود على نحو القضايا الحقيقية وليس من قبيل القضايا الخارجية حتى يكون تسريته إلى غير الحاضرين في مجلس الخطاب أو غير الموجودين في ذلك الزمان بدليل الاشتراك بل شموله للحاضرين والغائبين والموجودين والمعدومين على نسق واحد. وهذا هو شأن القضية الحقيقية الكلية سواء كان إخبارا أو إنشاء فإذا قلت: " كل إنسان ضاحك بالقوة " لا فرق في شمول هذا الحكم لافراد الانسان بين من كان قبلا موجودا من زمان آدم عليه السلام أو فعلا يكون موجودا أو من يوجد بعد إلى انقضاء زمان حياة البشر ونفخ الصور ويوم البعث والنشور.
فكذلك في القضية الحقيقية الانشائية فقول الله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) 1 الذي في قوة أن يقال بصورة الجملة الخبرية: " كل إنسان مستطيع يجب عليه الحج " يشمل الموجودين والمعدومين في عرض واحد لان الحكم أي وجوب الحج ثابت على كل انسان مستطيع بمعنى أن كل شخص إذا وجد في الخارج وكان مصداقا للانسان المستطيع يكون الحج واجبا عليه فالحكم على الطبيعة السارية إلى جميع الافراد. وبعبارة أخرى: حيث أن الله تعالى عالم في الازل بوجود المصلحة الملزمة في الفعل
(1) آل عمران (3): 97.
[ 63 ]
الفلاني الصادر من شخص متصف بكذا وكذا - وهذا العلم علة لجعل الوجوب المتعلق بذلك الفعل على ذلك الشخص المتصف بكذا وكذا - فلا محالة يحصل الجعل فيكون الفعل الكذائي واجبا على كل شخص كان مصداقا لذلك العنوان مع القيود المأخوذة فيه ونسبة الحكم إلى جميع المصاديق في عرض واحد ولو كان بين أفراد ذلك الموضوع تقدم وتأخر بحسب الوجود. فأفراد الانسان المستطيع وان لم تكن بحسب الوجود في عرض واحد بل كان بينها تقدم وتأخر بل وان كان بينها علية ومعلولية ولكن مع ذلك كله شمول الحكم للجميع في عرض واحد لان الحكم على نفس الطبيعة المقدرة الوجود ولا نظر له بالنسبة إلى الافراد الموجودة فعلا في الخارج. ومعلوم أن نسبة الطبيعة إلى أفراد الموجودة فعلا والتي كانت موجودة في الماضي والافراد التي يوجد فيما بعد على حد سواء فإذا كان موضوع الحكم تلك الطبيعة السارية المقدرة الوجود فقهرا يشمل الحكم جميع الافراد الذي يكون من مصاديق ذلك العنوان الذي أخذ موضوعا في القضية الحقيقية في عرض واحد. فلا يبقى محل
ومجال لدليل الاشتراك. وفي الحقيقة هذا الوجه الخامس يوجب هدم هذه القاعدة ولا يبقى معه احتياج إلى تلك القاعدة. الجهة الثانية في المراد من هذه القاعدة فنقول: قد تبين من تضاعيف ما ذكرناه في الجهة الاولى أنه ما المراد منها ولكن مع ذلك نقول: إن المراد منها: أن الحكم المتوجه إلى شخص أو طائفة خاصة بحيث أن دليل ذلك الحكم لا يشمل غير ذلك الشخص أو غير تلك الطائفة فدليل الاشتراك
[ 64 ]
يوجب إثباته لكل من كان مصداقا لما أخذ موضوعا لذلك الحكم أي كان متحد الصنف مع ذلك الشخص أو تلك الطائفة فيما إذا توجه الخطاب إليهما. مثلا: يسأل الراوي عن الامام عليه السلام أن فلانا صلى وبعد الفراغ علم أنه صلى في النجس نسيانا لا جهلا؟ فيقول عليه السلام: " يعيد صلاته " 1 فهذا الحكم حسب الدليل لذلك الشخص الذي سأل الراوي عن فعله ولكن بدليل الاشتراك يثبت لكل من كان مصداقا لذلك العنوان أي علم بعد الفراغ أنه صلى في النجس نسيانا وهكذا الامر في سائر الاحكام. وكذلك يسأل الراوي مثلا أن رجلا شرب الخمر فيبصق فاصاب ثوبي؟ قال عليه السلام: " لا بأس ". وأمثال ذلك كثيرة في جميع أبواب الفقه من أن مورد الحكم شخص خاص أو طائفة خاصة فلشمول الحكم للسائرين لابد من التمسك بدليل الاشتراك. وهذا فيما إذا لم نقل بان جعل الاحكام على نهج القضايا الحقيقية وإلا فلا حاجة في تلك الموارد إلى التمسك بدليل الاشتراك بل شمول الحكم لجميع من ينطبق عليه عنوان الموضوع في عرض واحد وبمناط واحد وهو ورود الحكم على الطبيعة
المرسلة السارية إلى جميع وجوداتها. ففي جميع تلك الموارد التي توجه الخطاب إلى شخص خاص أو طائفة خاصة يكون من باب أنه أحد مصاديق العام الذي هو موضوع الحكم في الحقيقة لا أنه بخصوصه موضوع كي يحتاج ثبوته لغيره ممن هو مثله إلى دليل الاشتراك. ولذلك قلنا إن الوجه الخامس الذي هو المعتمد عندنا يوجب هدم أساس دليل الاشتراك إذ دليل الاشتراك في مورد اختصاص الحكم من حيث دلالة دليله بنفس المورد وجعل الاحكام على نهج القضايا الحقيقية معناه أن الحكم عام يشمل المورد و ما هو مثله في عرض واحد فلا يبقى محل ومجال لاعمال دليل الاشتراك بل لا
(1) راجع: " وسائل الشيعة " ج 2، 1062، أبواب النجاسات، باب 42.
[ 65 ]
موضوع له. الجهة الثالثة في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة فنقول: موارد تطبيقها كثيرة جذا من أول أبواب الفقه - أي من كتاب الطهارات - إلى كتاب الديات فما من مسألة إلا ويكون مورد الدليل مختصا بشخص أو بطائفة فيحتاج إثبات ذلك الحكم للآخرين إلى دليل الاشتراك. مثلا: في أول كتاب الطهارة في فصل المياه وأقسامها وأول مسألة من هذا الفصل وهو أن الماء الراكد القليل غير البالغ كرا ينفعل بملاقات النجس أو المتنجس وان بلغ كرا فلا. فأدلة هذه المسألة عبارة عن أجوبة الامام عليه السلام عن أسئلة عن أشخاص في موارد خاصة فاثبات ذلك لاشخاص آخرين يحتاج إلى دليل الاشتراك. وأيضا في مسألة تغير الماء بالنجاسة ونجاسته وعدم جواز التوضئ به - وأما لو لم يتغير وغلب على النجس يجوز التوضئ به - الدليل عليه رواية حريز بن عبد الله
عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: " كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب فإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا تتوضأ منه ولا تشرب " 1. فترى أنه عليه السلام جوز الوضوء والشرب لذلك الشخص الخاص كما أن في مورد التغير نهى ذلك الشخص عن الوضوء والشرب فلابد من إثبات الحكم للآخرين من التمسك بدليل الاشتراك.
(1) " الكافي " ج 3، ص 4، باب الماء الذي تكون فيه قلة والماء... "، ح 3 " تهذيب الاحكام " ج 1، ص 216، ح 625، باب المياه واحكامها وما يجوز التظهر به وما لا يجوز، ح 8، " الاستبصار " ج 1، ص 12، ح 19، باب حكم الماء الكثير إذا تغير أحد أوصافه، ح 2، " وسائل الشيعة " ج 1، ص 102، أبواب الماء المطلق، باب 3، ح 1.
[ 66 ]
وأما إذا قلنا إن هذا الحكم - أي جواز التوضئ والشرب من الماء غير المتغير وعدم جوازهما من الماء المتغير - مجعول على نهج القضايا الحقيقية فشموله لذلك الشخص المخاطب وآخرين في عرض واحد فلا يبقى موضوع لدليل الاشتراك. وفي مسأله عدم تنجس ماء المطر بملاقات البول واختلاطه به حين ينزل المطر روى علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه السلام في ميزابين سالا أحدهما بول والآخر ماء المطر فاختلطا فأصاب ثوب رجل " لم يضره ذلك " 1. فاسراء هذا الحكم إلى غير ذلك الرجل يحتاج إلى قاعدة الاشتراك لو لم نقل بجعل الاحكام على نهج القضايا الحقيقية. وما ذكرنا كان من باب النموذج وإلا فالاستقصاء في موارد تطبيق هذه القاعدة معناه أن نذكر أغلب دورة الفقه مع مداركها من الروايات إذ كما ذكرنا في جميع أبواب الفقه من الطهارات إلى الديات أغلب مسائلها من هذا القبيل.
وهم ودفع أما الاول: هو أن هذه القاعدة ليس لها إطراد وانخرمت في مواضع عديدة: منها: مسألة الجهر والاخفات فالمرأة والرجل مختلفان في هذه الحكم في الصلوات الجهرية ولا اشتراك بينهما لانه فيها يتعين على الرجل الجهر وعلى المرأة الاخفات. وفي مسألة الوضوء يتعين على الرجل صب الماء ابتداء على ظهر اليد استحبابا وعلى المرأة بالعكس لما رواه محمد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: " فرض الله على النساء في الوضوء للصلاة أن يبدأن بباطن أذرعهن وفي
(1) " الكافي " ج 3، ص 12، باب اختلاط ماء المطر بالبول... ح 1، " تهذيب الاحكام " ج 1، ص 411، 1295، باب المياه وأحكامها، ح 14، " وسائل الشيعة " ج 1، ص 109، أبواب الماء المطلق، باب 6، ح 4.
[ 67 ]
الرجال بظاهر الذراع " 1. وفي الستر في الصلاة يجب على الرجل ستر العورتين فقط أي القبل والدبر وعلى المرأة ستر تمام البدن ما عدا الوجه والكفين وظاهر القدمين. وأيضا هما مختلفان فيجوز لبس الذهب والحرير في الصلاة وفي غيرها للمرأة ولا يجوزان مطلقا لا في الصلاة ولا في غيرها للرجل. وأيضا هما مختلفان في كيفية القعود في الصلاة كما هو مذكور في الكتب الفقهية. وأيضا هما مختلفان في حال الاحرام فيجوز لبس المخيط للمرأة دون الرجل. وأيضا هما مختلفان في الجهاد وصلاة الجمعة فيجبان على الرجل مع وجود شرائطهما ولا يجبان على المرأة مطلقا. وأيضا هما مختلفان بالنسبة إلى قبول التوبة إذا ارتد كل واحد منهما عن فطرة فتوبة الرجل لا تقبل من الجهات الثلاث - أي من جهة لزوم قتله وتقسيم أمواله على الورثة وابانة زوجته - وأما توبة المرأة فتقبل.
وكذلك مختلفان في حكم الزنا فعلى الرجل الجز والتغريب مدة عام وليس على المرأة شئ من هذين. وأيضا هما مختلفان في أن الرجل يجوز إمامته للنساء والمرأة لا يجوز إمامتها للرجال. وأيضا يحرم التظليل حال الاحرام على الرجل دون المرأة. وخلاصة الكلام أن الفرق بين الرجل والمرأة في الاحكام الشرعية وعدم اشتراكهما كثير واستقصاء الجميع مما يطول المقام ولا أثر له والمقصود من ذكر ما
(1) " الكافي " ج 3، ص 28، باب حد الوجه الذي يغسل والذراعين وكيف يغسل، ح 6، " تهذيب الاحكام " ج 1، ص 76، ح 193، باب صفة الوضوء والفرض منه والسنة والفضيلة فيه، ح 42، " وسائل الشيعة " ج 1، ص 328، أبواب الوضوء باب 40، ح 1.
[ 68 ]
ذكرنا من الموارد هو النقض على اطراد هذه القاعدة وانخرامها بهذه الموارد ويكفي لاثبات ذلك ما ذكرنا. وأما الثاني أي دفع هذا الوهم: أن خروج هذه الموارد عن تحت هذه القاعدة ليس من باب التخصيص وانخرامها بل من قبيل التخصص فلا يضر باطراد القاعدة ولا يوجب انخرامها. بيان ذلك: أن المراد من قاعدة الاشتراك ليس أن حكم كل واحد من أفراد البشر متحد مع السائرين متصفا بأي صفة كانت وفي أي حال من الاحوال كان لان هذا باطل بالضرورة إذ لا شك في أن حكم المسافر الافطار والتقصير بخلاف غير المسافر وهكذا حكم المضطر إلى أكل الميتة مثلا أو المكره إليه الجواز واقعا - كما هو نص القرآن في المضطر - ولكن لا يجوز لغيرهما وحرام وهكذا حكم المستطيع وغير المستطيع فالاول يجب عليه الحج دون الثاني وهكذا حكم الفقير والغني في وجوب
زكاة الفطرة مثلا. وخلاصة الكلام: أن اختلاف الاحكام باختلاف حالات المكلفين - من العسر واليسر والسفر والحضر والضرر وعدمه والحرج وعدمه والاضطرار وعدمه والاكراه وعدمه والحيض والاستحاضة وعدمهما والجنابة وعدمها إلى غير ذلك من الاختلافات الكثيرة - مما لا يمكن أن ينكر ومن القطعيات بل من الضروريات. بل المراد أنه في مورد اتحاد الصنف بالمعنى الذي ذكرنا له أي فيما إذا كان موضوع الحكم المذكور في القضية ينطبق على من هو مورد الحكم رجلا كان أو امرأة واحدا كان أو متعددا أو كان طائفة وعلى غير المورد من الآخرين ففي مثل هذا الحكم المورد وغير المورد يشتركان. كما أنه في أغلب الاحكام يسأل الراوي عن حكم موضوع فيقول مثلا: رجل أو امرأة شك في عدد ركعات صلاته فيقول عليه السلام مثلا: يبني على الاكثر فليس موضوع
[ 69 ]
وجوب البناء على الاكثر هو ذلك الرجل أو تلك المرأة بل الموضوع هو الشاك في عدد الركعات وذكر الرجل أو المرأة واحدا كان أو متعددا لبيان مصداق القضية الواقعة فحينئذ احتمال اختصاص هذا الحكم بذلك المورد - أي بذلك الرجل أو بتلك المرأة - مدفوع بقاعدة الاشتراك. وأين هذا مما جعل الشارع موضوع حكمه خصوص الرجل أو خصوص المرأة وكيف يمكن أن يدعي عاقل أن الحكم مع أن موضوعه خصوص الرجل مثلا ومع ذلك هو مشترك بين الرجل والمرأة. وهل هذا إلا تخلف الحكم عن موضوعه وهو محال. وما الفرق بين أن يكون اختلاف موضوع الحكم بالذكورة والانوثة وبين أن يكون اختلافهما بالاستطاعة وعدمها أو بالسفر والحضر أو بغير ذلك من العناوين الكثيرة التي توجب اختلاف الاحكام.
وحاصل الكلام: أن القيود المأخوذة في جانب موضوع الحكم يوجب عدم اتحاد الصنف ويكون خارجا عن موضوع قاعدة الاشتراك بالتخصص لا بالتخصيص فلا يكون موجبا لعدم اطراد القاعدة فظهر أن موارد النقوض المذكورة في اختلاف الرجل والمرأة كلها خارجة عن موضوع القاعدة ولا يكون نقضا عليها. ثم إن هاهنا كلام في الخنثى المشكل هل له حكم النساء أو ما هو المخصوص بالرجال أو ليس له شئ منهما؟ فنقول: إن الخنثى على قسمين: مشكل وغير المشكل. والثاني عبارة عمن يحكم عليه بانه من الرجال بواسطة الامارات التي جعلها الشارع أمارة التشخيص أو يحكم عليها بانها من النساء أيضا بواسطة الامارات التي جعلها الشارع أمارة كونها مرأة فهذا ليس بمشكل لانه بالتشخيص بواسطة الامارات يرتفع الاشكال. فهذا القسم لا إشكال فيه لانه ملحق بذلك القسم الذي حكم عليه أنه منهم فيكون من ذلك القسم فان كان ملحقا بالرجال بواسطة الامارات فعليه أن يجهر في
[ 70 ]
الصلوات الجهرية وهكذا بالنسبة إلى سائر الاحكام المختصة بالرجال وان كانت ملحقة بواسطة تلك الامارات بالنساء فعليها أن تخفت في صلاتها وهكذا في سائر الاحكام المختصة بالنساء. وأما الاول: أي المشكل الذي لا يحكم بانه رجل وكذلك لا يحكم عليه بانه امرأة لفقد أمارات الطرفين أو لتعارضها ففيه كلام وهو أنه إما أن نقول بان الاشكال إنما هو في مقام الاثبات وإلا ففي مقام الثبوت فلا إشكال إذ هو إما في الواقع رجل أو إمرأة وانما اشتبه الامر لفقد الامارة على تشخيصها أو لتعارضها وتساقطها وذلك من جهة أن أفراد الانسان وطبيعة البشر لا تخلو ا من أحد هذين: إما رجل أو امرأة وليس طبيعة أخرى وصنف ثالث في البين.
والدليل على ذلك قوله تعالى: (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور) 1 وقوله تعالى: (خلق الزوجين الذكر والانثى) 2 والظاهر من الآيتين حصر الموهوب والمخلوق فيهما. ومن جملة ما يؤيد أنه ليس طبيعة ثالثة بل إما ذكر أو أنثى قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) 3 ولو كان هناك طبيعة ثالثة فيرجع إلى أن الله تبارك وتعالى أهمل قسما وصنفا من الاولاد ولم يبين حكمه مع أن صدر الآية أي قوله تعالى: " يوصيكم الله في أولادكم " يدل على أن الوصية من قبل الله على عموم الاولاد فان جمع المضاف يفيد العموم فاهمال قسم من الاولاد في كمال الاستبعاد. ثم إن وجود خنثى المشكل مبني على فقد الامارات أو تعارضها كما ذكرنا ولكن ورد في الاخبار المروية عنهم عليهم السلام أمارتان: إحديهما خروج البول من أي واحد من
(1) الشورى (42): 49. (2) النجم (53): 45. (3) النساء (4): 11.
[ 71 ]
الفرجين. ثم على تقدير خروجه من كليهما ينظر إلى أن الاول خروجا منه أي واحد منهما فيحكم بالذكورية على تقدير خروجه من فرج الرجال وبالانوثة على تقدير خروجه من فرج النساء وعلى تقدير خروجه من كليهما ينظر إلى الاول خروجا منه أي واحد منهما فان كان فرج الرجال فرجل وان كان فرج النساء فامرأة. وعلى تقدير مقارنتها في الخروج والانقطاع فيعد أضلاعه في الايمن والايسر فان نقص الايسر فرجل وان لم ينقص فامرأة. وبناء على هذه الروايات لا يبقى خنثى مشكل لان هذه الامارات مترتبة ودائرة
بين النفي والاثبات فلا يتصور فقد جميع هذه الامارات بحيث لا يكون أحدها ولا معارضها لان هذه الامارات مترتبة ليست في عرض واحد كي يقع بينهما التعارض. أللهم إلا أن يقال: لو كان البول يخرج من فرج النساء ولكن أضلاع طرف الايسر أنقص بواحد من الطرف الايمن فيقع التعارض بين الامارتين. فمقتضى الاولى أنها امرأة ومقتضى الثانية أنه رجل ولكن هذا مبني على عدم ترتب الامارات وهو خلاف ظاهر الروايات. أما إن قلنا بأنه يمكن أن لا يكون رجلا ولا إمرأة فحينئذ ليس علم إجمالي في البين بانه إما رجل واما امرأة فليس مكلفا بما يختص بكل واحد منهما فتجري البرائة عن الاثنين إلا فيما لا يمكن ارتفاعهما كالجهر والاخفات فقهرا في هذا القسم يكون مخيرا بينهما. وأما بناء على الاول أي بناء على العلم الاجمالي فيجب عليه الاحتياط بالجمع بينهما أي العمل على وفق تكليف النساء تارة وعلى طبق تكليف الرجال مرة أخرى. وقد عرفت أنه في مقام الثبوت إما رجل أو امرأة وليس هناك قسم آخر أي طبيعة ثالثة في البين فالعلم الاجمالي محقق ويجب الاحتياط. هذا فيما إذا لم نقل بالرجوع إلى الامارات وإلا لا يبقى شك واعضال كي تصل
[ 72 ]
النوبة إلى العلم الاجمالي والعمل بالاحتياط بل الامارات تعين أنه رجل أو امرأة فيلحقه حكم ما عينته من كونه رجلا أو امرأة. ولكن التحقيق أن الاخبار الواردة في مسألة الخنثى طائفتان: الاولى: أنه يورث على الفرج الذي يبول منه فان بال منهما فمن حيث سبق البول وان جاء منهما دفعة فيورث على ما انقطع أخيرا وان تساويا في الشروع والانقطاع يعطي نصف ميراث الرجل ونصف ميراث المرأة.
وذلك مثل رواية هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: المولود يولد له ما للرجال وله ما للنساء؟ قال: " يورث من حيث يبول من حيث سبق بوله فان خرج منهما سواء فمن حيث ينبعث فان كانا سواء ورث ميراث الرجال وميراث النساء " 1. ورواية اسحاق بن عمار عن جعفر بن محمد عليهما السلام عن أبيه عليه السلام أن عليا عليه السلام كان يقول: " الخنثي يورث من حيث يبول فان بال منهما جميعا فمن أيهما سبق البول ورث منه فان مات ولم يبل فنصف عقل المرأة ونصف عقل الرجل " 2. ومعلوم أن المراد من قوله عليه السلام " ورث ميراث الرجال وميراث النساء " في رواية هشام ليس تمام ميراث الرجال وتمام ميراث النساء بحيث يكون إرثه كارث اثنين: أحدهما رجل والاخرى امرأة من حيث إشتماله لامرين أي الذكورة والانوثة (وذلك) من جهة أن الارث للاشخاص باعتبار كون كل واحد منهم مذكرا أو مؤنثا والخنثى شخص واحد لا شخصين فالمراد أنه يرث نصف مجموع الارثين وهو فتوى المشهور
(1) " الكافي " ج 7، ص 157، باب ميراث الخنثى، ح 3، " تهذيب الاحكام " ج 9، ص 354، ح 1269، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره من الناس، ح 3، " وسائل الشيعة " ج 17، ص 574، أبواب ميراث الخنثى، باب 2، ح 1. (2) " الفقيه " ج 4، ص 326، باب ميراث الخنثى، ح 5701، " تهذيب الاحكام " ج 9، ص 354، ح 1270، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره من الناس، ح 4، " وسائل الشيعة " ج 17، ص 575، أبواب ميراث الخنثى، باب 2، ح 2.
[ 73 ]
في إرث الخنثى بعد تساوي المبالين خروجا وانقطاعا. وأيضا هذا المعنى صريح رواية إسحاق بن عمار حيث يقول عليه السلام: " فان مات ولم يبل - أي عند فقد الامارة على التعيين - فنصف عقل المرأة ونصف عقل الرجل "
والمراد بالعقل هو الميراث وان كان في الاصل الدية. وأيضا هذا المعنى موافق لقاعدة العدل والانصاف بعد فقد أمارات التمييز والتعيين كما في سائر الموارد من العلم الاجمالي في الماليات. الثانية: بعد تساوي المبال من جميع الجهات - أي شروعا وانقطاعا - يعد أضلاعه فان كان الطرف الايسر أنقص من الطرف الايمن فهو رجل وإلا فامرأة. ولكن المشهور أعرضوا عن هذه الرواية ولم يعملوا بها فالمتعين هو الاخذ بقول المشهور من توريثه بالمبال وعند تساوي المبالين من جميع تلك الجهات المذكورة في الرواية يعطي نصف مجموع حق الرجل وحق المرأة. وقال بعضهم بالقرعة بعد الاعتبار بالمبال وتساويهما من تلك الجهات المذكورة في الروايات. ولكن أنت خبير بان القرعة أمارة في مورد العلم الاجمالي في الشبهة الموضوعية إذا كانت الشبهة من المعضلات لما حققنا في شرح قاعدة القرعة في الجزء الاول من هذا الكتاب من أن القرعة أمارة حيث لا دليل لحل المشكلة وكان من المعضلات. 1 فما ذكره الشيخ قدس سره في الخلاف من العمل بالقرعة مدعيا عليه الاجماع والاخبار 2 لا وجه له. أما عدم الاجماع فلذهاب المشهور إلى خلافه لما قلنا أنهم يقولون عند تساوي المبالين أخذا وانقطاعا أن له نصف حق الرجل ونصف حق المرأة. وأما الاخبار فلا تدل إلا على أمارية القرعة في المعضلات من الشبهات
(1) " القواعد الفقهية " ج 1، ص 65. (2) " الخلاف " ج 4، ص 106، كتاب الفرائض، مسالة 116.
[ 74 ]
الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي ومع وجود الروايات المعتبرة المعمول بها عند المشهور كرواية هشام بن سالم ورواية إسحاق بن عمار اللتين تقدمتا على أنه يرث
عند تساوي المبالين نصف حق الرجل ونصف حق المرأة فلا يبقى إعضال وإشكال حتى تصل النوبة إلى القرعة ففي مثل هذا المورد لا مجال للعمل بالقرعة. نعم هيهنا قول آخر للمفيد والمرتضى - قدس سرهما - والحلي في السرائر وهو عد أضلاعه فان كان الطرف الايسر أقل من الطرف الآخر فرجل وإلا فامرأة 1. وبه رواية حاكية قضاء أمير المؤمنين عليه السلام بذلك 2 ولكن الرواية ضعيفة والمشهور أعرضوا عن العمل بها. فالمعتمد هو القول المشهور وان احتجوا هؤلاء بالاجماع ولكن ادعاء الاجماع مع مخالفة المشهور لا يخلو من غرابة. وما استشكل على هذا القول بعدم إمكان تميز الاضلاع غالبا بحيث تطمئن النفس به خصوصا في السمين كما في الجواهر 3 أغرب. فخلاصة الكلام: أن الاخبار الواردة في باب ميراث الخنثى مفاد بعضها: أن الخنثى يرث على المبال وساكت عما إذا تساوى المبالان من حيث الشروع والانقطاع بل ساكت عما إذا خرج البول من كليهما. وذلك كرواية داود بن فرقد عن أبي عبد الله عليه السلام التي ينقلها عنه في الكافي قال: سئل عن مولود ولد له قبل وذكر كيف يورث؟ قال عليه السلام: " إن كان يبول من ذكره فله ميراث الذكر وان كان يبول من القبل فله ميراث الانثى " 4. ورواها الشيخ باسناده عن الفضل بن شاذان مثله 5.
(1) " السرائر " ج 3، ص 279، 280. (2) " تهذيب الاحكام " ج 9، ص 354، ح 1271، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره من الناس، ح 5، " وسائل الشيعة " ج 17، ص 575، أبواب ميراث الخنثى وما أشبهه، باب 2، ح 3. (3) " جواهر الكلام " ج 39، ص 284. (4) " الكافي " ج 7، ص 156، باب ميراث الخنثى، ح 1. (5) " تهذيب الاحكام " ج 9، ص 353، ح 1267، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره من الناس، ح 1.
[ 75 ]
وأيضا روى الشيخ باسناده عن أحمد بن محمد عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " كان أمير المؤمنين عليه السلام يورث الخنثى من حيث يبول " 1. وعن الكافي أيضا عن طلحة بن زيد مثله. 2 ولا يخفى أن هذا القسم من الروايات التي ساكتة عن صورة الجريان عن الاثنين مع تساوي المبالين من حيث الاخذ والانقطاع أو اختلافهما، لا تعارض الروايات التي تبين حكم صورة تساويهما أو اختلافهما من حيث الاخذ والانقطاع مع الجريان عن الاثنين ومفاد بعضها بيان حكم صورة الاختلاف في الشروع والانقطاع وانه يورث باسبقهما فان كانا متساويين في الشروع فبأبعدهما انقطاعا. مثل ما رواه الكليني في رواية أخرى عن أبي عبد الله في المولود له ما للرجال وله ما للنساء يبول منهما جميعا؟ قال عليه السلام: " من أيهما سبق " قيل: فان خرج منهما جميعا قال عليه السلام: " فمن أيهما استدر " قيل فان استدرا جميعا؟ قال عليه السلام: " فمن أبعدهما " 3. ومفاد بعضها في صورة التساوي في المبال من جميع الجهات المذكورة هو عد الاضلاع فان نقص طرف الايسر عن الايمن بواحدة فيعطى نصيب الرجل وإلا فنصيب المرأة. وذلك مثل رواية رواها في التهذيب 4 والفقيه 5 في قضية مجئ خنثى إلى شريح القاضي وبيان حاله له والرواية طويلة مذكورة في الوافي نقلا عن التهذيب والفقيه وموضع الحاجة منها أنه بعد مراجعة شريح إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال عليه السلام: " على بدينار الخصى - وكان معدلا - وبامرأتين " فاوتي بهم فقال عليه السلام لهم: " خذوا هذه المرأه
(1) " تهذيب الاحكام " ج 9، ص 353، ح 1268، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره من الناس، ح 2. (2) " الكافي " ج 7، ص 156، باب ميراث الخنثى، ح 2. (3) " الكافي " ج 7، ص 157، باب ميراث الخنثى، ح 5.
(4) " تهذيب الاحكام " ج 9، ص 354، ح 1271، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره من الناس، ح 5. (5) " الفقيه " ج 4، ص 327، باب ميراث الخنثى، ح 5704.
[ 76 ]
إن كانت امرأة فادخلوا بيتا وألبسوها نقابا وجردوها من ثيابها وعدوا أضلاعها " ففعلوا ثم خرجوا إليه فقالوا له: عدد الجنب الايمن إثنا عشر ضلعا والجنب الايسر أحد عشر ضلعا فقال علي عليه السلام: " الله أكبر إئتوني بحجام " فأخذ من شعرها فأعطاها رداء وحذاء وألحقها بالرجال 1. ومفاد بعضها أنه بعد تساوي المبالين يعطى نصف نصيب الرجل ونصف نصيب المرأة. وذلك مثل رواية هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: المولود يولد له ما للرجال وله ما للنساء؟ قال: " يورث من حيث يبول من حيث سبق بوله فان خرج منهما سواء فمن حيث ينبعث فان كانا سواء ورث ميراث الرجال وميراث النساء " 2. ورواية إسحاق بن عمار عن جعفر بن محمد عليهما السلام عن أبيه عليه السلام: " إن عليا عليه السلام كان يقول: الخنثى يورث من حيث يبول فان بال منهما جميعا فمن أيهما سبق البول ورث منه فان مات ولم يبل فنصف عقل المرأة ونصف عقل الرجل " 3. وهذان القسمان الاخيران بينهما تعارض وقد ذكرنا أنه يجب الاخذ بهذه الطائفة الاخيرة أي روايات التي مفادها أن له نصف نصيب الرجل ونصف نصيب المرأة لعمل المشهور بها واعراضهم عن الطائفة الاولى أي التي يأمر فيها بعد الاضلاع وجعل نقصانها في الطرف الايسر أمارة الذكورية والرجولية وان كانت تلك الروايات مروية بطرق متعددة حاكية لقضاء أمير المؤمين عليه السلام في تلك الواقعة العجبيبة.
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
(1) " الوافى " ج 2، ص 141، أبواب المواريث، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره. (2) سبق تخريجه في ص 72، رقم (1). (3) سبق تخريجه في ص 72، رقم (2).
[ 77 ]
17 - قاعدة تلف المبيع قبل القبض
[ 79 ]
قاعدة تلف المبيع قبل القبض * ومن القواعد الفقهية المشهورة قاعدة " كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه ". والكلام فيها من جهات: الجهة الاولى في مستندها وهو أمور الاول: الروايات: منها: الحديث النبوي الشريف المشهور الذي حكاه في المستدرك عن عوالي اللآلي: " كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه " 1. منها: رواية عقبة بن خالد التي رواها في الوسائل عنه عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل اشترى متاعا من آخر وأوجبه غير أنه ترك المتاع عنده ولم يقبضه، وقال: آتيك غدا إن شاء الله فسرق المتاع من مال من يكون؟ قال عليه السلام: " من مال صاحب
*. " خزائن الاحكام " ش 26، " بلغة الفقيه " ج 1، ص 149، و 209، " القواعد " ص 105، " قواعد فقه " ص 189،
" قواعد فقهية " ص 287، " القواعد الفقهية " (مكارم الشيرازي) ج 4، ص 351، " المبادي العامة للفقه الجعفري " ص 226 " مجله كانون وكلاء " العام 2، ش 16، ص 9 - 14، محمد اعتضاد البروجردي. " قاعده تلف مبيع قبل از قبض " ماجستير، " حقوق خصوصي "، محمد رضا قنبري، جامعة طهران. (1) " مستدرك الوسائل " ج 13، ص 303، أبواب الخيار، باب 9، ح 15430.
[ 80 ]
المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض المتاع ويخرجه من بيته، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد ماله إليه " 1. ودلالة الحديث الشريف على هذه القاعدة واضحة، من جهة أنها مدلوله المطابقي. وبعبارة أخرى: الحديث نص في هذه القاعدة، إذ مضمونه ومفاده عين هذه القاعدة وليس هناك - حسب قانون المحاورة وبناء العقلاء في مقام الافادة والاستفادة من استكشاف المراد بظواهر الالفاظ والهيئة التركيبية للجملة - احتمال آخر غير هذه القاعدة كي يكون هو المراد. وأما حجية هذا الحديث: فهو وإن كان مرسلا ليس له سند معتبر لكن تلقى الاصحاب له بالقبول واتفاقهم على الفتوى بمضمونه وكون مفاده من المسلمات عندهم يوجب الوثوق بصدوره الذي هو موضوع الحجية، لا كونه خبر عدل أو ثقة. وقد تكلمنا فيه واثبتناه في كتابنا " منتهى الاصول " في مبحث حجية الخبر 2 فراجع. فإذا كان الحديث الشريف من الجهتين - أي جهة الدلالة والحجية - لا قصور فيه فيثبت به المطلوب وهو اعتبار هذه القاعدة وصحتها. وأما الرواية: فهي أيضا من حيث السند لا احتياج لها إلى البحث عنها لما ذكرنا في الحديث المبارك. وأما من حيث الدلالة فأيضا حالها حال الحديث الشريف لان الحكم في كليهما على المبيع التالف عند البائع قبل أن يقبض المشتري بانه من مال البايع. نعم في الرواية هذا الحكم معنى بالقبض والاخراج من بيته وهذا أمر مسلم لا
يوجب فرقا في المقام بل التلف عند البائع قبل قبض المشتري يرجع إلى هذا المعنى بل هو عينه. وعلى كل حال الحكم في كليهما بان التلف من مال البائع فيه احتمالات ثلاث:
(1) " وسائل الشيعة " ج 2، ص 358، أبواب الخيار، باب 10، ح 1. (2) " منتهى الاصول " ج 2، ص 112.
[ 81 ]
أحدها: أن يكون المراد منه أن القبض دخيل في حصول ملكية المبيع للمشتري وإلا فهو باق على ملك البايع، كما أنه كذلك في بيع الصرف فان القبض في المجلس دخيل وشرط لحصول ملكية العوضين وصحة العقد. ولكن هذا الاحتمال معلوم البطلان إجماعا. الثاني: أن تكون يد البائع يد ضمان فيكون الضمان بالمثل أو القيمة كسائر أبواب الغرامات وايدي العادية. ولكن هذا الاحتمال أيضا باطل لان المفروض أن اليد ليست يد ضمان بل أمانة مالكية، وإلا لو كانت اليد يد ضمان أو أتلف البائع أو نفس المشتري مع عدم قبضه - إن لم تكن الاتلاف قبضا - فليس مربوطا بهذه القاعدة، بل في الاول يكون ضمان البائع ضمانا واقعيا بالمثل أو للقيمة وبقاعدة " على اليد " وفي الثاني أيضا ضمانا واقعيا وبقاعدة " الاتلاف " وفي الثالث هو أتلف ماله فلا ضمان على البائع بهذه القاعدة لعدم تحقق موضوعها وهو التلف قبل القبض لانه إتلاف من قبل نفس المالك لا التلف عند البائع قبل أن يقبض المشتري. الثالث: انفساخ المعاملة آنا ما قبل التلف ليكون التلف في ملك البائع فيكون معنى الضمان رجوع الثمن إلى ملك المشتري لا الضمان الواقعي. وهذا الاحتمال - أي انفساخ المعاملة آنا ما قبل التلف - لا محذور فيه بعد وجود
الدليل عليه أي الملكية آنا ما للبائع من طرف الشارع فان الامر بيده وله نظائر في الشرع. منها: لو باع داره مثلا ببيع الخياري ففسخه وكان فسخه بأن باعها من غير المشتري الاول أو وقفها فبناء على صحة البيع أو الوقف لابد وأن نلتزم بدخوله آنا ما في ملك الفاسخ ثم يتحقق البيع أو الوقف لانه لا بيع إلا في ملك. ومنها: قوله أعتق عبدك عني بناء على صحة العتق ووقوعه عنه بصرف هذا
[ 82 ]
الكلام وذلك من جهة أنه لا يمكن وقوعه عنه إلا بأن يصير ملكا له آنا ما قبل وقوع العتق عنه. ومنها: فيما إذا اشترى من ينعتق عليه، فلابد من الالتزام بملكية المشتري آنا ما كي يصح البيع فينعتق عليه، وهذا مقتضى الجمع بين دليلي صحة البيع وانعتاقه عليه. ومنها: ما قيل في باب المعاطاة بناء على القول بالاباحة وجواز عتق من اشتراه بالمعاطاة أو وقفه أو تعلق الزكاة والخمس به فان مقتضى الجمع بين أدلة هذه الاقوال هو الالتزام بملكية آناما. والحاصل أنه بعد ورود الدليل على رجوع الثمن إلى المشتري إذا تلف المبيع قبل القبض فلابد من الالتزام بانفساخ العقد ورجوع المبيع إلى ملك البائع آنا ما، فوقوع التلف كان في ملكه. الثاني: الاجماع على هذا الحكم، وقد ادعاه صريحا في التذكرة وحكى أيضا عن جماعة 1 والظاهر عدم الخلاف واتفاق الاصحاب على هذا الحكم. ولكن قد ذكرنا مرارا من أن مثل هذا الاتفاق والاجماع - الذي من المحتمل بل المظنون بالظن القوي أن يكون مدركه الروايات الواردة في هذا الباب أو الاعتماد على ما سنذكره من بناء العقلاء - ليس من الاجماع المصطلح في الاصول الذي بنينا على حجيته.
الثالث: بناء العقلاء على انفساخ العقد لو وقع التلف قبل القبض ورجوع الثمن إلى المشتري وذلك من جهة أن العقلاء في باب العقود المعاوضية وان كانوا ينشأون المبادلة بين المالين - بمعنى أنهم في عالم الاعتبار يملكون أحد العوضين لصاحب العوض الآخر - ولكن بعنوان المعاوضية وكون العوض الآخر عوضا وبدلا، وليس من قبيل الهبة تمليكا مجانيا وبلا عوض وبلا بدل، فما دام كل واحد من العوضين باق ويكون قابلا لان يعطي للآخر بدل ماله الذي أخذ منه هذا العقد باق.
(1) " تذكرة الفقهاء " ج 1، ص 473.
[ 83 ]
وأما إن سقط عن قابلية الاعطاء أو عن كونه بدلا فقهرا ينفسخ العقد ويرجع ما هو باق إلى صاحبه. والذي وقع عليه التلف وذهب من البين، أو سقط ماليته في عالم الاعتبار - فيما كان ماليته بصرف الاعتبار كالاوراق المالية التي تسقط عن الاعتبار - يذهب من كيس صاحبه أي صاحبه قبل المعاوضة، وهذا من لوازم إنفساخ العقد. ولكن يرد على هذا الدليل أنه بناء عليه يكون الانفساخ في الرتبة المتأخرة من التلف، إذ التلف صار سببا للانفساخ ولازم ذلك أن التلف وقع في ملك من هو صاحبه بعد العقد لا من كان صاحبه قبل العقد، وهو خلاف مفاد القاعدة ومضمونها كما سيأتي في بيان مفاد القاعدة أي في الجهة الثانية. وأيضا خلاف ما هو ظاهر الروايات وما هو المسلم بين الاصحاب لان ما هو المسلم بينهم في المفروض أن تلف المبيع يكون من مال صاحبه قبل العقد الذي هو البائع في المقام. ويمكن أن يجاب عنه بان أصل انفساخ العقد ورجوع ما هو من العوضين باق ولم يتلف إلى ملك من كان صاحبه قبل العقد يكون على القاعدة ومقتضى طبع المعاوضة وبناء العقلاء في أبواب المعاملات المعاوضية والمبادلات المالية ولكن كونه آنا ما قبل التلف ليكون التلف في ملك المالك قبل العقد حكم تعبدي ودليله الاجماع أو
الروايات. فبناء على هذا هذه القاعدة لا تعبدي محض ولا أنها تكون مقتضى قواعد المعاوضات فقط بل تكون مركبة من أمرين أي أصل الانفساخ فيما إذا وقع التلف على أحد العوضين ليس تعبديا بل هو مقتضى طبع المعاوضات والمبادلات المالية كما بينا مفصلا وأما كونه آنا ما قبل التلف فتعبدي صرف. الجهة الثانية في مفاد هذه القاعدة وما هو المراد منها وشرح ألفاظها فنقول: أما " المبيع " و " التلف " فمعناهما معلومان ولا يحتاج إلى شرح وايضاح.
[ 84 ]
وأما ما يقال من أن المبيع في القاعدة هل يشمل الثمن أم لا فليس من جهة الترديد في معنى لفظ المبيع لانه من الواضح ظهوره عرفا في المثمن بل وكذلك لغة وانما احتمال شموله له من ناحية وحدة المناط والملاك خصوصا بناء على ما قلنا في الدليل الثالث على هذه القاعدة من بناء العقلاء في باب المعاوضات على أن يكون الاخذ والاعطاء الخارجيين بعنوان العوضية حالهما فلابد وأن يكون كل واحد منهما قابلا للاعطاء إلى زمان حصول التقابض من الطرفين فلو تلف أحدهما سواءا كان هو المثمن أو الثمن قبل أن يقبض فلا يمكن التقابض فقهرا يتفسخ المعاملة. ولا فرق في حصول الانفساخ من هذه الجهة بين أن يقع التلف قبل القبض على الثمن أو المثمن. نعم لو كان هذا الحكم صرف تعبد من حيث دلالة النبوي عليه فلا مجال للترديد لان لفظ المبيع لا يشمل الثمن قطعا. وأما ما يقال من أن التلف هل يشمل ما يجب إتلافه شرعا كمورد القصاص في العبد الجاني أو مورد ارتداده الفطري حيث انه محكوم شرعا بالاتلاف والقتل ولا تقبل توبته من هذه الجهة وان كان الاصح قبول توبته من غير الجهات الثلاث أي
القتل وتقسيم أمواله بين ورثته وابانة زوجته عنه أو مورد صيرورته مقعدا. والحاصل أن كل مورد يكون شرعا محكوما بالتلف أو بوجوب الاتلاف مع بقاء العين تكوينا ووجدانا فليس هذا أيضا ترديدا في معنى التلف لان التلف عبارة عن انعدام الشئ تكوينا إن كان من التكوينيات بل مرادهم أن هذه الامور مشمولة للتلف حكما لا موضوعا أم لا؟ وبعبارة أخرى: مناط التلف وهو عدم إمكان التقابض الذي قلنا إنه من مقتضيات ذوات عقود المعاوضية فيها موجود وإلا فان الشئ الموجود بعينه كيف يمكن أن يطلق التلف عليه حقيقة. نعم لا مانع من إطلاق التلف عليه مجازا وبالعناية باعتبار سلب الآثار ونفيها عنه
[ 85 ]
أو نفي الاثر المطلوب. وأما لفظ " القبض " الوارد في هذه القاعدة فهو بالمعنى الذي يذكره الفقهاء في باب البيع أي استيلاء البايع على الثمن مثلا ووقوعه تحت يده بحيث لو أتى من يدعيه يكون هو المدعى ويكون القابض هو المنكر لانه يكون هو ذا اليد. وأما كلمة " من مال بائعه " المذكورة في هذه القاعدة ففيها إحتمالان: الاول: أن يكون المراد منه أن التلف وقع في مال البائع وذلك بان يكون مرجع ضمير " هو " هو التلف المعلوم من كلمة تلف المذكورة في هذه القاعدة بصورة الفعل الماضي. ولا شك في أن ظاهر هذا الكلام بناءا على هذا أن التلف من مال البائع لا من المشتري فلابد من القول بانفساخ المعاملة قبل التلف آنا ما حتى يمكن أن يكون التلف من مال البائع وإلا فكيف يمكن أن يكون التلف الواقع في ملك المشتري من مال البائع. أللهم إلا أن يقال: إن المراد من كون التلف من مال البائع مع وقوعه في ملك
المشتري هو أن خسارته وضمانه الواقعي عليه. ولكن أنت خبير بأن هذا خلاف ما هو ظاهر الكلام جدا نعم لو كان بدل كلمة " من مال " لفظة " على بائعه " كان لهذا الاحتمال وجه. وقد ظهر مما ذكرنا بطلان الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد من هذه الكلمة أي كلمة " من مال بائعه " أن خسارة التالف وغرامته على البائع لا أن أصل وقوعه في ملك البائع حتى يكون ملازما مع انفساخ العقد آنا ما قبل التلف وقوع التلف في ملك البائع إلا أن يقال بعدم حصول الملكية لكل واحد من المتبايعين قبل وقوع القبض من الطرفين كما أنه نسب ذلك إلى شيخ الطائفة قدس سره. ولكن أنت خبير بعدم صحة هذا الكلام لما هو المذكور في محله واتفاق الكل على خلافه.
[ 86 ]
فإذا ظهر لك ما ذكرنا من المراد من ألفاظ هذه القاعدة فنقول: إن معنى هذه الجملة ومفاد هذه القاعدة في كمال الوضوح وهو عبارة عن أن كل مبيع من أي سنخ من الاموال إنسانا كان أو حيوانا أو نباتا أو جمادا لو وقع عليه التلف قبل أن يقبضه المشتري يوجب انفساخ البيع آنا ما قبل التلف فيكون من مال بائعه فيرجع الثمن إلى المشتري. وأما بناء على ذلك الاحتمال الآخر الذي قلنا إنه خلاف الظاهر وخلاف فتوى المشهور بل خلاف الاجماع فيكون مفاد القاعدة أن كل مبيع تلف قبل قبضه أي قبل استيلاء المشتري عليه يكون خسارته وضمانه على البائع فيكون البائع يعطي مثله للمشتري إن كان مثليا ومثله موجودا ويعطي قيمته له إن كان قيميا أو كان مثليا ولكن مثله ليس بموجودا وتحصيله متعذر أو متعسر وان كان موجودا. ثم إنه تختلف النتيجة في سعة انطباق القاعدة وفي ضيقه بحسب اختلاف المدرك.
فلو كان المدرك هو الروايات فالظاهر المستفاد منها هو الذي تقدم من انفساخ البيع لو تلف المبيع قبل أن يقبضه المشتري ورجوع الثمن إلى ملك المشتري. وأما شموله للثمن - أي لو تلف الثمن قبل أن يقبضه البائع فيكون موجبا لانفساخ العقد - في غاية الاشكال لان لفظ المبيع لا يشمل الثمن لا بحسب الوضع اللغوي ولا بحسب المتفاهم العرفي ولا لفظ البائع يشمل المشتري. وأما شموله لما لو كان التالف بعض المبيع فسنتكلم فيه في الجهة الثالثة إن شاء الله تعالى. وأما لو كان المدرك هو الاجماع فأيضا يكون الحكم مثل ما إذا كان المدرك الروايات إذا كان معقد الاجماع هو مفاده هذه القاعدة كما هو كذلك. اللهم إلا أن يقال: إنه أوسع بناء على انعقاده في الثمن أيضا مثل المبيع. وأما لو كان المدرك هو بناء العقلاء في باب المعاوضات على أن إنشاء المبادلة
[ 87 ]
والمعاوضة بين العوضين مبني على الاخذ والاعطاء خارجا بحيث يكون هذا المعنى أي التعاطي والتقابض من الطرفين من مقومات المعاملة والعقود المعاوضية وداخلا في حقيقتها. ومن هذه الجهة لو تلف أحد العوضين قبل أن يقبضه الذي صار صاحبه بعدم وقوع المعاوضة فينفسخ المعاوضة قهرا لعدم إمكان تحقق مثل هذا المعنى بعد تلف أحدهما. وبناء على هذا لا اختصاص لهذه القاعدة بالبيع بل تجري في جميع العقود المعاوضية وفي تلف كل واحد من العوضين إذا كانت المعاوضة والمعاملة واقعة على الشخصيين لانه لا معنى لتلف الكليين. نعم لو كان أحد العوضين كليا والآخر شخصيا فالقاعدة تجري في تلك المعاملة لامكان وقوع التلف على ذلك العوض الشخصي.
الجهة الثالثة في موارد انطباق هذه القاعدة وعرفت في الجهة الثانية أنها تختلف سعة وضيقا باعتبار اختلاف مدركها فنقول: أما جريانها فيما إذا وقع التلف على تمام المبيع الشخصي قبل أن يقبضه المشتري أو قبل ما كان في حكم القبض وهو كما إذا أتلفه المشتري مثلا فهو القدر المسلم على جميع الاحتمالات أي سواء كان مدركها الروايات أو الاجماع أو مقتضى القواعد الاولية. وأما إذا وقع التلف على بعض المبيع فهل تشمله هذه القاعدة وينفسخ البيع ويرجع تمام الثمن إلى المشتري أو لا ينفسخ أصلا أو يفصل بين ما إذا كان المبيع يقسط عليه الثمن باعتبار الاجزاء وليس لهيئة الاجتماع أثر في مقدار السعر كما إذا باع شاتين بعقد واحد أو منين من طعام متحد الجنس من حيث نوع الطعام ومن حيث الجودة والردائة فإذا تلف أحد الغنمين أو أحد المنين من الحنطة أو الارز مثلا
[ 88 ]
فينفسخ العقد بالنسبة إلى ذلك المقدار ويرجع ثمن ذلك المقدار إلى البائع وبين ما إذا كان لهيئة الاجتماع أثر في ازدياد السعر أو في أصل السعر كزوج حذاء تلف أحد فرديه احتمالات. والاقوى هو الاخير سواء كان المدرك هو الروايات أو الاجماع أو ما ذكرنا من بناء العقلاء وذلك من جهة أنه كما يصدق المبيع على الكل كذلك يصدق على جميع الاجزاء ولذلك يقولون بصحة البيع بالنسبة إلى الجزء الذي مملوك إذا كان المبيع مركبا مما يملكه ومما لا يملك أو كان مركبا مما يملك ومما لا يملك لانه لا معنى لكون الشئ مبيعا إلا تمليكه للغير بعوض مال ولا شك في أن البائع ملك كل جزء من أجزاء المثمن في الصورتين المتقدمتين بمقدار من ذلك الثمن والعوض المذكور المسمى
في العقد فيصدق عليه أنه مبيع نعم لا يصدق عليه أنه مبيع مستقل بل هو مبيع في ضمن كون الكل مبيعا ولكن نفي المقيد لا يستلزم منه نفي المطلق. هذا بناء على أن يكون مدرك هذه القاعدة هو النبوي المشهور أو الرواية فواضح لما ذكرنا من صدق المبيع على ذلك الجزء التالف نعم ينفسخ العقد بالنسبة إلى ذلك الجزء التالف فقط لا بالنسبة إلى الجميع. وأما لو كان المدرك هو الاجماع فان كان معقد الاجماع ما هو الموضوع في القاعدة أي " كل مبيع تلف " فالامر أيضا كما ذكرنا وأما لو كان معقده مهملا لا إطلاق فيه فلابد وأن يؤخذ بالقدر المتيقن وهو تلف تمام المبيع قبل القبض لا بعضه اللهم إلا أن يدعي الاجماع على الجزء أيضا. وأما لو كان المدرك هو بناء العقلاء فشموله للجزء أوضح لان بناء العقلاء في المعاملات المعاوضية كما بينا هو إنشاء المبادلة بين المالين لاجل الاخذ والاعطاء والتقابض الخارجي فإذا خرج إحد العوضين أو كلاهما عن قابلية القبض والاقباض والاخذ والاعطاء ولو كان بواسطة تلف بعض أحدهما فقهرا ينفسخ
[ 89 ]
المعاملة. ويمكن أن يقال باختصاص الانفساخ بالنسبة إلى ذلك المقدار التالف من العوضين أو أحدهما. هذا فيما إذا كان وقوع التلف على المبيع كلا أو بعضا. وأما لو وقع التلف على الثمن فان كان مدركها النبوي المشهور فلا تشمل الثمن لظهور المبيع فيما هو مقابل الثمن وما هو حجة في باب الالفاظ والجمل الصادرة عن الشارع في مقام بيان الاحكام ليس إلا ظهورات تلك الالفاظ والجمل التي هي كاشفات عن مرادات المتكلم إذ طريقته في مقام بيان الاحكام ليست إلا طريقة أهل المحاورة ولابد لشمول هذا الحكم للثمن من التماس دليل آخر من نقل أو إجماع أو
بناء العقلاء وسنتكلم فيها. وأما إن كان مدركها رواية عقبة بن خالد فصدر الرواية وان كان ظاهرا في خصوص المبيع ولا يشمل الثمن - لانه عليه السلام في مقام سرقة المتاع الذي هو المبيع يحكم بان التلف من مال صاحبه الذي هو في بينه أي البائع فلا ربط له بتلف الثمن قبل أن يقبضه البائع - ولكن ذيلها أي قوله عليه السلام: " فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد إليه ". ولا شك في أن ظاهر هذا الكلام أن البائع بعد ما أخرج المبيع من بيته أي أقبضه وسلمه إلى المبتاع أي المشتري فيكون المبتاع أي المشتري ضامن لحقه أي البائع لان المفروض أنه أي المبتاع قبض المبيع فيكون ضامنا بالضمان المعاوضي لا الواقعي لانه قبض المبيع بضمان المعاوضي المسمى بضمان المسمى أي الثمن فلا يمكن له أداء حق البائع أي عوض المبيع الذي هو عبارة عن الثمن فلا يمكن له إتمام المعاوضة والعمل بها فقهرا يرجع المبيع إلى البائع إن كان موجودا وهذا معنى انفساخ العقد. هذا ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس سره في هذا المقام ولكن يمكن أن يقال: إن ما أفاده بان معنى جملة " فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد ماله إليه " وان كان كما ذكره وبيناه أي مفاد
[ 90 ]
هذه الجملة والمتفاهم العرفي منها هو أن المشتري بعد قبض المبيع ضامن للبائع بما هو المسمى في عقد المعاوضة أي الثمن المعين في ذلك العقد ولكن بعد ما وقع التلف على ذلك الثمن لا ملزم لرجوع المبيع إلى البائع وانفساخ العقد بل من الممكن أن يقال ذهب الثمن من كيس البائع بلا عوض لان يد المشتري يد أمانة بعد قبض المبيع ولا إتلاف في البين حتى يكون موجبا للضمان أو ينتقل ضمان المسمى إلى الضمان الواقعي أي المثل إن كان مثليا أو القيمة إن كان قيميا إن كانت يده يد ضمان اللهم إلا أن يدل دليل آخر على انفساخ العقد وسنذكره إن شاء الله تعالى.
وأما إن كان مدركها الاجماع فلابد وان ينظر إلى معقد الاجماع وانه هل في خصوص تلف المبيع قبل قبضه قالوا بالانفساخ أو لا فرق في قولهم بالانفساخ بين تلف المبيع قبل قبضه أو تلف الثمن قبل أن يقبضه البائع؟ والظاهر عدم الفرق في هذا الحكم بين المبيع والثمن والشيخ الاعظم الانصاري قدس سره استظهر نفي الخلاف من عبارات الاصحاب في هذا المقام بالنسبة إلى الثمن أيضا 1. وأما لو كان مدركها بناء العقلاء بالبيان المتقدم فلا فرق بين المبيع والثمن أصلا لوجود ما هو مناط الانفساخ في تلف الثمن أيضا إذا كان الثمن شخصيا لان المبيع والثمن الكليين لا معنى لوقوع التلف عليهما نعم في المبيع الكلي أو الثمن الكلي يمكن أن يكون فردا منحصرا به الكلي بحيث لا يكون مصداقا آخر للكلي غيره وتلف ذلك المصداق. ولكن هذا أيضا ليس من تلف المبيع أو الثمن بل يكون من قبيل عدم وجود المصداق لذلك الكلي الذي هو الثمن أو المثمن. وعلى كل حال عرفت أن مناط الانفساخ بناء على هذا الوجه عدم إمكان التقابض والتعاطي الذي هو من مقتضيات ذات العقد بل لا يتحقق حقيقة المعاملات المعاوضية إلا به كما بينا مفصلا. وفي تحقق هذا المعنى أي امكان التقابض والاخذ
(1) " المكاسب " ص 314.
[ 91 ]
والاعطاء لا فرق بين تلف المبيع وبين تلف الثمن بل وبين تلف بعضه. ثم إنه هل تختص هذه القاعدة بالبيع أو تشمل سائر العقود المعاوضية؟ فيه تفصيل: وهو أنه لو كان مدركها الحديث الشريف أي النبوي المشهور أو رواية عقبة بن خالد فالظاهر اختصاصها بالبيع وعدم شمولها لسائر المعاملات المعاوضية لان موضوع الحكم فيها عنوان المبيع وهو عنوان مختص بالمثمن في خصوص البيع ولا يشمل العوض ولا المعوض في سائر العقود والمعاملات وحينئذ التعدي إلى سائر
المعاملات المعاوضية يحتاج إلى دليل أو تنقيح مناط وإذ ليس في البين شئ منها فالقول بشمولها لها في غاية الاشكال. وأما لو كان مدركها الاجماع فقد حكى الشيخ الاعظم الانصاري قدس سره عن التذكرة عموم الحكم لجميع المعاوضات على وجه يظهر كونه من المسلمات 1 ولكن إثبات عموم الحكم لجميع المعاوضات بالاجماع المصطلح الاصولي في غاية الاشكال لعدم تحققه أولا بادعاء البعض خصوصا إذا كان بالاستظهار من كلام ذلك البعض من دون تصريحه بذلك وعدم حجية مثل هذا الاجماع ثانيا على فرض تحققه. لما ذكرنا مرارا من أن حجية الاجماع من باب الحدس القطعي برأيه عليه السلام من اتفاق الكل وكشفه عنه وكون الاتفاق مسببا عن تلقيهم منه عليه السلام وذلك لا يكون إلا فيما إذا لا يكون معتمد ومدرك آخر في البين يمكن أن يكون اتفاقهم مستندا إليه من بناء العقلاء على التفصيل الذي ذكرنا والنبوى المشهور 2 ورواية عقبة بن خالد 3. والانصاف أن الاجماع على شمول الحكم لجميع المعاملات المعاوضية كالاجارة والصلح بعوض والدين بل الهبة المعوضة ممنوع صغرى وكبرى كما بينا. وأما لو كان مدركها ما ذكرنا من بناء العقلاء والعرف والعادة على أن إنشاء العقود
(1) " المكاسب " ص 314. (2) سبق تخريجه في ص 79، رقم (1). (3) سبق تخريجه في ص 80، رقم (1).
[ 92 ]
المعاوضية والمبادلة في عالم الاعتبار والتشريع مبني على الاخذ والاعطاء الخارجي بحيث لو لم يكن قابلا للاخذ والاعطاء الخارجي يكون المبادلة في عالم الاعتبار والتشريع لغوا وعملا غير عقلائي فقابلية الاخذ والاعطاء الخارجي للعوضين مأخوذة في حقيقة العقد حدوثا وبقاء أي حدوثها في حدوث العقد وبقاؤها في بقائه
فإذا سقط عن هذه القابلية بعد العقد وقبل القبض فقهرا ينفسخ العقد. وأنت خبير بان مثل هذا المعنى ليس مختصا بالبيع بل يجرى في جميع المعاوضات. ولعل من هذه الجهة جعل التلف قبل القبض في التذكرة في باب الاجارة موجبا لانفساخ العقد وقال إنه من المسلمات. 1 هذا كله فيما إذا وقع التلف على أحد العوضين كلا أو بعضا. وأما لو وقع التلف على صفة أحدهما قبل قبضه سواء كانت - تلك الصفة - فقدانها موجبا لحدوث عيب في ذلك العوض أو لا بل كانت القاعدة صفة كمال بحيث لا يقال لفاقد تلك الصفة أنه معيب وعلى كل حال هل تجري القاعدة في هذه الصورة أم لا؟ أقول: أما جريان القاعدة بناء على أن يكون مدركها الروايات أو الاجماع فلا وجه له أصلا لانه لا يصدق على فوات الوصف - بكلا قسميه أي سواء كانت الصفة صفة كمال فقط وان لم يكن فقدانها موجبا لحدوث عيب في المبيع أو كان كذلك - أنه تلف المبيع الذي جعل موضوع الحكم في الروايات أو انعقد عليه الاجماع. واما بناء على أن يكون مدركها بناء العقلاء بالبيان المتقدم فأيضا لا وجه لجريانها إذ المناط في جريانها بناء على ذلك المدرك عدم إمكان التقابض الخارجي بالنسبة إلى العوضين بما هما عوضان لان فوات الوصف لا يخرج الموصوف عن كونه عوضا. ولا يقاس بتلف الجزء أي بعض أحد العوضين لان الجزء التالف
(1) " تذكرة الفقهاء " ج 2، ص 322.
[ 93 ]
عوض وبدل عن مقدار من العوض الآخر فلا يمكن التقابض والاخذ والاعطاء بالنسبة إلى ذلك الجزء التالف ومقابله من العوض الآخر بخلاف الوصف فانه لا يقابل بحصة من العوض الآخر وان كان ربما يوجب زيادة قيمة الموصوف به.
نعم يبقى فرع آخر وهو أن العيب الحادث قبل القبض هل هو مثل الحادث بعد القبض حتى لا يكون فيه الخيار ولا الارش أو مثل الحادث قبل العقد حتى يأتيان أي الخيار أو الارش؟ والحق فيه هو ثبوت الخيار دون الارش وذلك لان الارش حكم تعبدي على خلاف مقتضى القواعد إذ مقتضى القواعد - حتى فيما إذا كان العيب قبل العقد - هو كون من انتقل إليه المعيب مخيرا بين إبرام المعاملة أو حلها لاجل أن التزامه بهذه المبادلة والمعاوضة كان فيما إذا لم يكن ما انتقل إليه فاقدا لوصف الصحة فلا إلتزام له بهذا الموجود فهو مخير بين أن يقبل ما انتقل إليه بنفس العوض المسمى في العقد وتمامه أو يفسخ. وأما أخذ الارش فهذا شئ دلت عليه الروايات وربما يقال في مورد عدم إمكان الرد للتصرف المانع منه كوطئ الجارية المعيبة التي صارت حبلى وام ولد. والحاصل أن أخذ الارش حكم تعبدي في خصوص العيب الحادث قبل العقد وفي ملك صاحبه الاولي فيجب الوقوف في مورده ولا يجوز إسراؤه إلى العيب الحادث بعد العقد وإن كان قبل القبض إلا أن يدل دليل على الاسراء واشتراك العيب الحادث قبل العقد مع الحادث بعده إذا كان قبل القبض وإذ ليس فليس له أخذ الارش بل له الخيار فقط. هذا كله بناء على أن يكون هذا الحكم - أي تلف المبيع قبل القبض من مال البائع - من باب بناء العقلاء وإلا لو كان من باب الروايات أو الاجماع فقد عرفت عدم جريانه في تخلف الوصف بكلا قسميه أي سواء كان الوصف الفاقد وصف كمال أو
[ 94 ]
كان وصف الصحة فلا يوجب إلا الخيار. ينبغي التنبيه على أمور
الاول: في أن النماء الحاصل للمبيع التالف ما بين العقد والتلف هل يرجع مثل المبيع التالف إلى ملك من انتقل عنه أو يبقى على ملك من انتقل إليه قبل التلف وبعد العقد؟ وكذلك يرجع العوض الذي للتآلف نفسه إلى ملك من انتقل عنه لانمائه بمعنى أن يتلف أحد العوضين يرجع نفس العوض الآخر إلى مالكه قبل العقد اناما لا نماؤه؟ والحق في هذا المقام بعد أن قلنا بحصول الملكية بنفس العقد وليس حصولها متوقفا على القبض كما نسب إلى الشيخ قدس سره وقلنا إن التلف يوجب انحلال العقد آنا ما قبل التلف لا من أول الامر كما هو الصحيح والمختار فلا يبقى وجه لرجوع النماء المنفصل إلى المالك قبل العقد لان النماء حصلت في ملك من انتقل إليه وليس سبب ناقل في البين حتى نقول برجوعه ثانيا إليه. الثاني: إن ضمان البائع بالنسبة إلى الثمن لو تلف المبيع قبل أن يقبضه المشتري هل يسقط باسقاط المشتري؟ وكذلك ضمان المشتري للمبيع لو تلف الثمن قبل أن يقبضه البائع هل يسقط باسقاط البائع أم لا؟ في كلتا الصورتين أي في صورة إسقاط المشتري ضمان البائع للمبيع وفي صورة إسقاط البائع ضمان المشتري للثمن. الظاهر عدم الاسقاط في كلتا الصورتين وذلك من جهة أن انحلال العقد ورجوع العوض الموجود بعد تلف عوض الآخر إلى مالكه قبل العقد أمر قهري بناء على أن يكون مدرك القاعدة هو بناء العقلاء الذي تقدم الكلام فيه وليس من فعل أحد المتعاقدين حتى يكون من قبيل الخيار الذي هو حق حل العقد وإبرامه كي يكون قابلا للاسقاط كسائر الحقوق القابلة للاسقاط. وبعبارة أخرى ليس انفساخ العقد آنا ما قبل التلف من آثار حق المشتري على
[ 95 ]
حل العقد في تلف المبيع قبل القبض ولا من آثار حق البائع في تلف الثمن قبله حيث أن بقاء العقد منوط عند العقلاء ببقاء قابلية كل واحد من العوضين على الاخذ
والاعطاء - كما ذكرنا مفصلا - وفي أي وقت خرج عن هذه القابلية ينحل العقد قهرا فلا معنى لان يكون قابلا للاسقاط. الثالث: أن لا يكون التلف المذكور في هذه القاعدة مسببا عن إتلاف شخص سواء كان هو مالك أحد العوضين أو أجنبي عن هذه المعاملة لانه إن كان المتلف هو الذي انتقل إليه هذا التالف في هذه المعاملة فليس هذا من قبيل التلف قبل القبض لان هذا الاتلاف من مالكه وهو بنفسه يكون قبضا نعم لو كان جاهلا بانه ماله وأوهمه آخر بأنه هبة لك أو مباح عليك فأكله مثلا فيدخل في قاعدة الغرور ويرجع إلى من غره بضمانه الواقعي من المثل أو القيمة كل في محله ولا ينافي ذلك تمامية المعاملة وكون هذا الاتلاف قبضا. وأما لو كان الاتلاف من قبل غير المالك بعد العقد سواء كان هو المالك قبل العقد أي الطرف الآخر للمعاملة أو كان من قبل ثالث أجنبي فبناء على المختار من كون مدرك القاعدة هو بناء العقلاء ينحل العقد لا محالة ويرجع عوضه إلى مالكه قبل العقد لعدم إمكان التقابض. وأما بالنسبة إلى ضمان التالف فان كان المتلف هو مالكه قبل العقد فلا ضمان في البين أصلا لان الانسان لا يضمن لاتلاف مال نفسه لانه بعد فرض انحلال العقد آنا ما قبل التلف يرجع التالف إلى ملكه فيكون إتلافه واقعا على ملكه فلا ضمان. وأما إن كان المتلف هو الاجنبي فيرجع المالك بعد الانحلال إلى ذلك المتلف الاجنبي بضمانه الواقعي من المثل أو القيمة كل في محله. الرابع: لو كان شخص وكيلا عن البائع والمشتري أو وليا عليهما والثمن والمثمن كلاهما تحت يده أو كان هو البائع مثلا ولكن كان وليا على المشتري ففي جميع هذه
[ 96 ]
الصور لو تلف أحد العوضين بمحض وقوع العقد يكون من التلف بعد القبض لا قبله
لان المفروض أن العوضين كلاهما في يده وأيضا المفروض أن يده يد الطرفين إذا كان وكيلا عنهما أو وليا عليهما ويده يد الطرف الآخر إذا كان هو البائع وكان وليا على المشتري أو بالعكس أي كان هو المشتري وكان وليا على البائع فلا يحتاج إلى قبض جديد لانه من قبيل تحصيل الحاصل. نعم الشئ الذي يمكن أن يقال هو أنه هل يحتاج في حصول القبض إلى قصد جديد ونية جديدة بمعنى أن الثمن مثلا كان عنده وفي يده باعتبار أنه ملك لهذا المولى عليه وبعد وقوع العقد ينوي أن يكون عنده وتحت يده باعتبار صيرورته ملكا لذلك المولى عليه الآخر وكذلك الامر في باقي الصور؟ أم لا يحتاج إلى تجديد القصد والنية؟ والتحقيق في هذا المقام هو أن في ما يده بالنسبة إلى نفسه قبض بلا إشكال بمعنى أنه نفسه لو كان أحد طرفي المعاملة سواء كان الطرف الآخر موكله أو المولى عليه له والمفروض أن المال المتعلق بأي واحد منهما في يده فالقبض حاصل ولا يحتاج إلى قصد ونية جديدة وذلك لعدم اعتبار القصد والنية في صدق الافعال ولم يؤخذ لا في مادتها ولا في هيأتها فالذي خطى خطوات يصدق أنه مشى سواء قصد المشي أو لم يقصد. نعم لو كان وكيلا عن شخص في كونه طرفا في معاملة أو وليا عليه فصدق القبض عن قبله بدون القصد مشكل من جهة أن استناد فعل صادر من شخص إلى شخص آخر إن لم يكن بتسبيبه وتحريكه فلابد وأن يكون بقصد النيابة عنه وإلا فكيف يستند إلى شخص أجنبي آخر اللهم إلا أن يقال: إن صدور القبض عن الوكيل أو عن الولي فيما إذا كان البيع أو الشراء لهما يكفي من دون الاحتياج إلى استناد القبض إليهما. وربما يشهد لذلك ما روى في الصحيح عن الصادق عليه السلام في رجل تصدق على ولد
[ 97 ]
له قد أدركوا فقال عليه السلام: " إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث فان تصدق على من لم يدرك من ولده فهو جائز لان الوالد هو الذي يلي أمره " 1. فمفاد هذه الرواية هو عدم الاحتياج إلى القبض إن كان الواهب وليا على الموهوب له واطلاقه يشمل صورتي القصد وعدم القصد فيدل على أن قبضه يكفي مطلقا سواء قصد كونه عن طرف المولى عليه أم لا. وعموم التعليل يوجب عدم الفرق بين الهبة وسائر أقسام التمليك فان قوله عليه السلام: " لان الوالد هو الذي يلي أمره " لا اختصاص بمورد التمليك بالهبة ويستفاد منه أن التصرف في جميع أموره راجع إلى الولي أبا كان أو جدا. الخامس: لو فرط وكيل البائع في الاقباض بدون أي عذر فتلف المبيع فلا شك في انفساخ العقد ورجوع المبيع إلى البائع آنا ما قبل التلف بناء على ما هو المختار في مدرك هذه القاعدة لعدم إمكان التقابض بين العوضين بعد التلف بأي سبب كان التلف بل ولو كان بالاتلاف إذا لم يكن من قبل من انتقل إليه بالعقد لما ذكرنا من أن الاتلاف من قبله قبض فليس من التلف قبل القبض بل يكون من التلف بنفس القبض. نعم يبقى الكلام في رجوع البائع إلى الوكيل المفرط بناء على انحلال العقد ورجوع المبيع آنا ما قبل التلف إلى ملك البائع فوقع التلف في ملك البائع بتفريط من الوكيل فيكون ضامنا للبائع من جهة الاتلاف أو اليد؟ والصحيح هو الثاني لانه لم يتلف ولكن بسبب تأخيره وتفريطه في الاقباض صارت يده يد ضمان وخرج عن كونه يدا أمانية فالضمان - أي ضمان الوكيل للبائع - يكون ضمانا واقعيا أي بالمثل أو القيمة كل في مورده لا ضمان المسمى ولا وجه لاحتماله أصلا.
(1) " الفقيه " ج 4، ص 247، باب الوقف والصدقة والنحل، ح 5585، " تهذيب الاحكام " ج 9، ص 137، ح 577، باب الوقوف والصدقات، ح 24، " الاستبصار " ج 4، ص 102، ح 390، باب من تصدق على ولده
الصغار...، ح 6، " وسائل الشيعة " ج 13، ص 299،، أبواب الوقف والصدقات، باب 4، ح 5.
[ 98 ]
نعم فيما إذا كان قيمة المسمى أزيد من الضمان الواقعي للتالف يمكن أن يقال بتضمين الوكيل المفرط بالنسبة إلى تلك الزيادة وهذا الامر ليس مختصا بالموكل المفرط بل يأتي في كل متلف أجنبي عن المعاملة فينحل العقد لاجل عدم أمكان التقابض الذي هو شرط بقاء العقد ويقع التلف في ملك من انتقل عنه التالف آنا ما قبل التلف ويرجع عوضه إلى الطرف الآخر. والمالك آنا ما قبل التلف يرجع إلى المتلف الاجنبي بالضمان الواقعي من المثل والقيمة. ولو كان المسمى له زيادة على الضمان الواقعي يمكن أن يقال بالرجوع إليه في تلك الزيادة لاجل تفويته تلك الزيادة على المالك. ومما ذكرنا ظهر أنه لو كان مال تحت يده سواء كانت يده يد أمانة أو يد عادية فاشتراه من مالكه لا يحتاج إلى قبض جديد ولا يكون تلفه بعد وقوع العقد وبمحض وجوده إلا التلف بعد القبض لما ذكرنا من أن القبض عبارة عن اليد والسيطرة الخارجية على شئ وهذا المعنى حاصل قبل وقوع العقد على الفرض. السادس: فيما إذا تعارض هذه القاعدة مع قاعدة " التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له " كما إذا وقع التلف قبل قبض المشتري للمبيع ولكن كان في زمان خيار البائع دون المشتري فبمقتضى هذه القاعدة ينحل العقد ويكون تلف المبيع من مال البائع بان يدخل في ملكه آنا ما قبل التلف فيقع التلف في ملكه وقهرا يرجع ثمن المسمى إلى المشتري. ومقتضى قاعدة " التلف في زمان الخيار من مال من لا خيار له " هو أن يكون التلف في ملك المشتري ولا يرجع الثمن إليه. ولا يمكن الجمع بين مفادهما في عالم الجعل والتشريع وهذا معنى التعارض بين الدليلين وحيث أن بينهما عموم من وجه
فمقتضى القاعدة تساقطهما في مورد الاجتماع والرجوع إلى الاصول العملية إن لم تكن أمارة أخرى في البين.
[ 99 ]
وقد يقال بعدم كون النسبة بينهما عموم من وجه لان قاعدة " التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له " مورد تشريعه بعد القبض فالتلف إذا كان قبل القبض يكون من مال البائع وان كان في زمان خيار البائع ولم يكن للمشتري خيار. ويستشهد لذلك بقوله عليه السلام في مورد خيار الشرط للمشتري دون البائع في صحيحة ابن سنان: " وان كان بينهما شرط أياما معدودة فهلك في يد المشتري فهو مال البائع " 1. ففرع عليه السلام ضمان البائع على الهلاك في يد المشتري الذي هو عبارة أخرى عن كون التلف بعد القبض. وكذلك قول الراوي في رواية عبد الرحمن " فماتت عنده " أي بعد أن قبضها المشتري فجواب الامام عليه السلام بانه " ليس على الذي اشترى ضمان حتى بمضي بشرطه " 2 ظاهر في أنه في نفس المورد أي بعد القبض وإذا كان هناك بين الاخبار الدالة على هذه القاعدة مطلق فيقيد بهذين الخبرين والنتيجة أن التلف إذا كان بعد القبض يكون من مال من لا خيار له فلا يقع تصادم ولا تعارض بين القاعدتين. وذكروا وجوها أخر لتقديم قاعدة " التلف قبل القبض " على قاعدة " التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له " تركنا ذكرها لئلا يطول المقام. والاحسن بل التحقيق في هذا المقام أن يقال: بناء على ما هو التحقيق في مدرك هذه القاعدة أي قاعدة " كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه " من أن انحلال العقد بتلف أحد العوضين أو كلاهما قهري لبناء المعاوضة على القبض والاقباض الخارجي، فإذا خرج أحدهما أو كلاهما عن هذه القابلية تكون المعاوضة لغوا وغير عقلاني.
فمتى لم يكن العوضان قبل أن يحصل القبض والاقباض قابلين للاخذ والاعطاء،
(1) " تهذيب الاحكام " ج 7، ص 24، ح 103، باب عقود البيع، ح 20. (2) " الكافي " ج 5، ص 171، باب الشرط والخيار في البيع، ح 9، " تهذيب الاحكام " ج 7، ص 24، ح 104، باب عقود البيع، ح 21، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 351، أبواب الخيار، باب 5، ح 1.
[ 100 ]
العقلاء يرون مثل هذه المعاملة منحلة وباطلة، فالتلف قبل القبض - سواء أكان لكلا العوضين أو لاحدهما - موجب وعلة لانحلال العقد قهرا ويترتب الانحلال على التلف قبل القبض ترتب المعلول على علته. ويكون في زمان التلف، وإلا يلزم الانفكاك الباطل بالضرورة فلا يبقى موضوع لتلك القاعدة، لان موضوع تلك القاعدة، أي قاعدة " التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له " هو زمن الخيار المتوقف على وجود العقد، وإلا فلا معنى للخيار مع انحلال العقد وانعدامه والمفروض أن موضوع هذه القاعدة أي قاعدة " كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه " الذي هو التلف قبل القبض معدم لموضوع تلك القاعدة فلا يبقى مجال للتعارض لان التعارض فرع وجود الموضوع ثم وجود حكمه كي يتعارضان ولذلك اتفقوا على أنه لا تعارض بين الحاكم والمحكوم. بل في المقام يمكن أن يقال بورود هذه القاعدة على تلك القاعدة لانحلال العقد بالتلف قبل القبض واقعا لا تعبدا فقط بل يمكن القول بالتخصص لان الانحلال ليس بتصرف من قبل الشارع بالتعبد به بل هو أمر تكويني. والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
[ 101 ]
18 - قاعدة ما يضمن بصحيحه
يضمن بفاسده
[ 103 ]
قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده * ومن القواعد الفقهية المعروفة المشهورة قاعدة " كل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ". وفيها جهات من البحث: الجهة الاولى في مدركها ومستندها فنقول: وهو أمور ذكرها الفقهاء: الاول: قاعدة الاقدام. الثاني: قاعدة الاحترام. الثالث: قاعدة اليد. والرابع: الاجماع. أما الاول أي قاعدة الاقدام فالمراد بها أن كلا المتعاقدين أقدما على أن يكون مال
*. " الحق المبين " ص 88 و 138، " عناوين الاصول " عنوان 63، " بلغة الفقيه " ج 1، ص 67، و 116، " مجموع قواعد فقه " ص 71، " قواعد فقه " ص 90، " القواعد " ص 209، " قواعد فقه " ص 191، " قواعد الفقهيه " ص 98، " قواعد فقهيه " ص 105، " القواعد الفقهيه " (مكارم الشيرازي) ج 4 ص 213، " قواعد الفقهيه " ص 74، " مجله حقوقي " العام 2، ش 17، قاعده كل عقد يضمن بصحيحه، " فصل نامه حق " دفتر 11 و 12، العام 1366، قاعده ما يضمن " بررسى فقهى حقوقي قاعده ما يضمن " ماجستير، مجيد فرخى مقدم، مدرسة الشهيد مطهرى العالية.
[ 104 ]
الآخر له بضمان لا مجانا وبلا عوض ولذلك لو كانت المعاملة صحيحة كان كل واحد
منهما ضامنا للمسمى حسب إقدامه والتزامه فالبائع مثلا يكون ضامنا للمبيع المسمى بمعنى أنه في عهدته ويجب عليه تفريغ ما في ذمته باعطاء المبيع المسمى في العقد للمشتري وكذلك الامر في طرف المشتري. واستشكل على هذا الوجه أولا بان إقدام المتعاملين على أن يكون أخذ مال صاحبه وان كان مبنيا على أن يكون بعوض أي ما هو المسمى في العقد من الطرفين ولكن كان هذا الاقدام والالتزام بالمسمى - والمفروض عدم إمضاء الشارع ما التزما به واقدما عليه - وهو أن يكون أخذ كل واحد منهما مال صاحبه بالعوض المسمى فضمان كل واحد منهما لمال الآخر إذا تلف ولم يكن إتلاف في البين يحتاج إلى دليل آخر غير الاقدام لعدم إقدامهما على ضمان المثل والقيمة. ثانيا: أنه ما الدليل على أن إقدامه هذا ملزم له على ضمانه بالمثل أو القيمة فان (أوفوا بالعقود) 1 ليس في البين لان المفروض فساد العقد وعدم إلزام من طرف الشارع على الوفاء بهذه المعاملة والعقد فلو فرضنا أنه أقدم على أصل الضمان وعينه في المسمى والشارع لم يمض لزوم إعطاء المسمى مع التزامه هو بذلك وقلنا إن التزامه بأصل الضمان باق غاية الامر لم يلزمه الشارع باعطاء تلك الخصوصية وجوز له عدم إعطائه لها لكن عليه العمل على طبق إقدامه فيما عدا تلك الخصوصية فيبقى السؤال - بعد التسليم على أن إقدامه على أصل الضمان غير الاقدام على الخصوصية وهناك إقدامان - عن أنه ما هو الملزم لوجوب العمل على طبق هذا الاقدام. وبعبارة أخرى: إن هذا إلتزام ابتدائي لا يجب العمل به تكليفا ولا يوجب اشتغال الذمة والعهدة وضعا الذي يسمى بالضمان. وان شئت قلت: إن الالتزامات التي تقع بين الناس بصورة المعاوضة والمبادلة إن
(1) المائدة (5): 1.
[ 105 ]
أمضاها الشارع وحكم بلزوم الوفاء بها فيجب الوفاء وإلا فهو مخير بين الوفاء بها وبين عدم الوفاء إن لم تكن المعاملة والوفاء بها محرما وإلا فان كان محرما شرعا كبيع الخمر أو البيع الربوي فلا يجوز الوفاء به والمفروض في المقام فساد العقد والمعاملة وعدم إمضاء الشارع لها فلا قيمة لهذا الالتزام والاقدام. ولكن يمكن أن يقال: إن العقلاء بناؤهم في أبواب معاملاتهم على أنه إذا أخذ شيئا من الطرف بعنوان أن يعطي بدله وعوضه فان تراضيا على عوض معين وسمياه - وهو الذي نسميه بالمسمى - فان تعذر ذلك المسمى فيرون المأخوذ مضمونا على الاخذ بالضمان الواقعي أي المثل أو القيمة فلو تلف المأخوذ في يده يرونه ضامنا فإذا حكم الشارع بفساد معاملة وعدم لزوم أداء المسمى لذلك الآخر فيرونه ضامنا بالضمان الواقعي ولم يصدر ردع عن هذا البناء فيكون ضمان المقبوض بالعقد الفاسد إذا تلف عند القابض على القاعدة ودليله بناء العقلاء مع عدم ردع الشارع الذي هو كاشف عن الامضاء. فهذا يكون دليلا خامسا لهذه القاعدة. وحاصل الكلام أن بناء العقلاء في معاملاتهم على أن الذى يأخذ ويقبض مال الغير بعنوان المعاوضة والمبادلة وباعطائه له ما يساويه - وان كان الاخذ بهذا القصد في المعاملة غير الصحيحة عندهم لفقد ما هو مانع عندهم - لا يذهب ما أخذه هدرا ولا يكون مجانا بل يرونه ضامنا لما أخذ ومشغولا ذمته بما قبض. نعم حيث أن المعاملة الكذائية باطلة عندهم فلا يرون ذمته مشغولة بالمسمى. وأما أصل اشتغال ذمته وكون ضمان ما قبض على عهدته فشئ مفروغ عنه ولعل نظر شيخ الطائفة 1 أبو جعفر الطوسي قدس سره في استدلاله للضمان في المقبوض بالعقد الفاسد وأمثاله من المتقدمين بانه أقدم على الاخذ والقبض بالضمان إلى ما قلناه وإلا فهذا الكلام بظاهره ظاهر الخلل.
(1) انظر: " المبسوط " ج 3، ص 64.
[ 106 ]
وأما الثاني: أي قاعدة الاحترام وهي عبارة عن احترام مال المؤمن وان حرمته كحرمة دمه. فتقريب دلالتها في المقام هو أنه بعد ما حكم الشارع بفساد هذه المعاملة وعدم دخول كل واحد من العوضين في ملك الآخر لخلل في نفس العقد أو في المتعاقدين أو في العوضين فقبض كل واحد من المتعاملين لمال الآخر بدون اشتغال ذمته بشئ في قباله معناه أنه لا احترام لهذا المال ويذهب هدرا لو تلف بدون إتلاف من طرف القابض وهذا مناف مع جعل الشارع حرمته كحرمة دم مالكه فكونه محترما معناه أن القابض إذا لم يكن مالكا له لفساد المعاملة يكون ضامنا لدركه بمعنى أنه لو تلف فعليه غرامته بالمثل أو القيمة لا أنه يجب عليه الرد فقط فصرف تكليف ولا ضمان في البين هذا ما ذكروه. ولكن الانصاف أن صرف كون المال محترما لا يدل على أنه بمحض القبض يكون ضامنا ويكون المال في عهدته بل قضية احترامه عدم جواز التصرف فيه بدون إذنه وانه لو تصرف فيه واتلف أو نقص شئ منه بسبب تصرفه بدون إذن صاحبه فيكون ضامنا لذلك التلف أو ذلك النقص وعليه غرامته إلا أن تكون يده يد ضمان. وسنتكلم عنها ونقول إنها دليل مستقل بل هي العمدة في هذا الباب. والحاصل: أن مفاد قاعدة الاحترام هو أن مال المؤمن محترم مثل دمه فكما أنه لو جاء ضيف إليه فمات حتف أنفه عنده ليس على المضيف شئ فكذلك لو قبض ماله لا بالقهر والغلبة - حتى تكون يده عادية - لا شئ عليه لو تلف بالتلف السماوي من دون ارتباط إلى القابض لا مباشرة ولا تسبيبا. ولا منافاة بين عدم الضمان والاحترام ولذلك قال الشيخ الاعظم 1 وشيخنا
(1) " المكاسب " ص 103.
[ 107 ]
الاستاذ 1 - قدس سرهما - أن الضمان في المقام مستند إلى اليد والمقصود من ذكر قاعدة الاقدام وكذلك الاحترام عدم ما يوجب تخصيص قاعدة اليد بمعنى أن اليد على مال الغير موجبة للضمان إلا في المال الذي لا احترام له كمال الكافر غير الذمي وأيضا إلا فيما إذا أقدم على إعطائه مجانا وبلا عوض فقاعدة الاحترام لاجل عدم وجود المخصص وهو عدم احترام المال والاقدام كذلك أيضا لان إقدامه على الاعطاء مجانا وبلا عوض يوجب تخصيص قاعدة اليد بل تخصصه. وأما الثالث: أي قاعدة اليد والمراد به النبوي المشهور أعني قوله صلى الله عليه وآله: " وعلى اليد ما أخذت حتى تؤدي " 2. وهذا الحديث الشريف من ناحية السند من جهة شهرتة بين الفريقين غني عن البحث والتكلم فيه من جهة أن هذه الشهرة توجب الوثوق بصدوره منه صلى الله عليه وآله وقد تقرر في الاصول أن موضوع الحجية الخبر الموثوق الصدور. وأما من ناحية الدلالة فنقول: الظاهر أن الظرف ظرف مستقر أي يكون عامله من أفعال العموم ك " مستقر " أو " ثابت " وأمثال ذلك لا أنه ظرف لغو كي يكون عامله من أفعال الخصوص مثل " يجب " و " يلزم " وأمثالهما. وذلك لجهات: الاولى: من جهة أنه لو كان متعلقا بأحد أفعال الخصوص فلابد من تقدير كلمة " الرد " أو " الاداء " وأمثال ذلك لان الموصول كناية عن المال المأخوذ. ويجب أو يلزم ويحتم على اليد المال المأخوذ لا معنى له لان الوجوب واللزوم لابد وأن يتعلق بالافعال لا بالذوات فلابد وأن يقدر كلمة " الرد " وما يشبهه حتى يكون معنى الحديث يجب أو يلزم على اليد - أي على المسيطر - رد المال الذى أخذه أو أداؤه أو
(1) " منية الطالب " ج 1، ص 118.
(2) " مستدرك الوسائل " ج 14، ص 7، أبواب كتاب الوديعة، باب 1، ح 15944.
[ 108 ]
إعطاءه وأمثال ذلك حتى يستقيم المعنى ولا شك في أن التقدير خلاف الاصل. الثانية: أنه لو كان الظرف ظرف لغو وكان متعلقا ب " يجب " أو " يلزم " فيكون الحكم معني في لسان دليله باتيان متعلقه وامتثاله وهذا ركيك إلى الغاية لان المعنى بناء على هذا يصير هكذا: يجب رد ما أخذه المسيطر وأداؤه حتى يرد ويؤدي ومثل هذا الكلام لا ينبغي أن ينسب إلى سوقي وهو من عامة الناس فضلا عمن هو رب الفصاحة والبلاغة وافصح من نطق بالعناد. الثالثة: أن ظاهر الكلام أن نفس ما أخذته اليد عليها لا ردها وأدائها ولا يمكن أخذ هذا الظاهر إلا بان يكون العامل من أفعال العموم لانه حينئذ يصير المعنى أن ما أخذته اليد أي المال الذى وقع تحت سيطرة القابض يستقر ويثبت عليه وهذا عبارة أخرى عن أن القابض ضامن لما قبضه لان الضمان في المقام عبارة عن كون المال المقبوض على عهدة القابض بوجوده الاعتباري لان وجوده التكويني تحت اليد ويكون القابض مسيطرا عليه. فالشارع اعتبر هذا المال الذى وقع تحت يد القابض وسيطرته على عهدته فالوجود التكويني لذلك المال تحت اليد والوجود الاعتباري فوق اليد عهدته مشغولة به ولا يرتفع عن العهدة إلا باداء ما هو مصداق لذلك الوجود الاعتباري ويحمل عليه بالحمل الشائع. وهذا الذى ذكرناه من كون ذلك الوجود الاعتباري فوق اليد ومستقر وثابت في العهدة يستفاد من ظهور كلمة " على " في الاستعلاء. ومن الواضح البين أن ما أخذته أي المال المقبوض حيث أنه لا يمكن أن يكون بوجوده الخارجي في العهدة - لان العهدة وعاء الموجودات في عالم الاعتبار بل هو
نفس تلك الموجودات الاعتبارية كما أن الذهن عبارة عن نفس تلك الموجودات الذهنية لا أنه هناك ظرف ومظروف متغايران - فلابد وان يكون في العهدة بذلك
[ 109 ]
الوجود الاعتباري. وهذا الاعتبار سواء أكان من طرف الشارع أو من طرف العقلاء لا يزول ولا ينعدم إلا بأداء ما هو مصداق لذلك الوجود الاعتباري بالحمل الشائع وهذا هو عين الضمان إذ العرف لا يفهم من الضمان إلا هذا المعنى. ولا شك في أنه ما دامت العين - أي نفس المال المقبوض الذى هو تحت اليد - موجودة فيكون المصداق الحقيقي لذلك الوجود الاعتباري هو نفس المال الخارجي إذ هو واجد للجهات الثلاث أي المقومات النوعية والصفات الصنفية والمشخصات الخارجية وذلك كما أن صورة الذهنية لذلك المال الشخصي مصداقها الحقيقي أولا وبالذات بدون عناية هو نفس ذلك المال الخارجي وأما إذا تلف المال فمصداقه المثل مع وجوده وعدم تعذره بل وعدم تعسره لان المثل واجد لجهات نوعيته وصنفيته وان كان فاقدا لجهات شخصية المال. نعم مع فقد المثل لا يمكن أداء التالف إلا من جهة ماليته وهذه الجهات الثلاث مترتبة وطولية في مقام تفريغ الذمة عما ثبتت واستقرت على عهدته بمعنى أنه لا تصل النوبة إلى المثل إلا بعد تعذر الشخص ولا إلى القيمة والمالية إلا بعد تعذر المثل وهذا المعنى الذى ذكرنا للضمان هو المرتكز في أذهان العرف والعقلاء في باب الضمان. وخلاصة الكلام أن الحديث الشريف يدل على أن مال الغير إذا وقع تحت يد شخص وسيطرته يكون مستقرا وثابتا في عهدته حتى يؤديه على بعض النسخ أو حتى يؤدي بدون الهاء في بعض النسخ الاخر. وهذا الاختلاف في النسخ لا يؤثر في معنى الحديث وان احتمل بعض أن كلمة
" يؤديه " مع الهاء يؤيد أن الظرف ظرف مستقر لا أنه ظرف لغو حتى يكون عامله من أفعال الخصوص مثل " يجب " و " يلزم " لان هذه الكلمة مع الهاء معناه أنه يؤدي ذلك الذي أخذه ونفس ما وقع تحت اليد ووجوب رد نفس ما وقع تحت اليد بعد
[ 110 ]
التلف غير معقول بل المعنى المعقول منه هو أن ذلك المأخوذ على عهدته ولا يفرغ ذمته إلا بأداء ذلك الامر الاعتباري الذى على عهدته بالترتيب الذي ذكرنا. ولكن أنت خبير بأنه لا فرق من هذه الجهة بين أن يكون الظرف لغوا أو مستقرا ومتعلقه من أفعال العموم أو الخصوص إذ بناء على الاخير أيضا لا مانع من أن يكون المراد أنه يجب رد نفس ذلك الشئ الذي أخذ بأحد الوجوه الثلاثة المتقدمة. كما أن ما احتمله بعض آخر - من أن مفاد الحديث بقرينة وجود هذا الضمير عبارة عن وجوب الرد تكليفا ما دامت العين موجودة وقبل التلف إذ بعد التلف لا يمكن رده فلا ربط له بباب الضمان أصلا - لا وجه له لما ذكرنا من أن معنى الحديث وظاهره المتفاهم عرفا هو كون المأخوذ وما هو تحت اليد والسيطرة على عهدته مستقرا وثابتا إلى أن يفرغ ذمته ويؤدي ذلك الشئ بأحد الوجوه الثلاثة المترتبة الطولية المتقدمة. وأما الرابع أي الاجماع فقد ادعاه جمع من أساتذة الفقه وأساطين هذا الفن وأرسلوه إرسال المسلمات ولكن مع ذلك كله ليس من الاجماع المصطلح الاصولي الذي بنينا على حجيته إذ الذى سلمنا حجيته كان عبارة عن اتفاق الكل أو الجل مع عدم مستند في البين فحينئذ يكون مثل ذلك الاتفاق كاشفا عن تلقيهم الحكم عن الامام المعصوم. وفيما نحن فيه على فرض تسليم الاتفاق حيث أن بعضهم تمسكوا بقاعدة الاقدام وبعض آخر بقاعدة الاحترام وجمع آخر بحديث على اليد فيسقط اتفاقهم عن الاعتبار ولابد من المراجعة إلى نفس المدارك.
وقد حكى الشيخ الاعظم عن شيخ الطائفة وفقيه عصره في شرح القواعد وابن إدريس في السرائر - قدس أسرارهم - الاجماع على هذا الحكم 1. ولكن عرفت ما في التمسك بالاجماع في هذا المقام.
(1) " المكاسب " ص 101.
[ 111 ]
الجهة الثانية في مفاد هذه القاعدة ومعناها فنقول: تارة يعبر عن هذه القاعدة بما جعلناه عنوان هذه الكلية في أول هذه المسألة وهو " كل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده " واخرى يعبر عنها ب " كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ". ولا شك في أن الاول أشمل من الثاني لشموله الايقاعات أيضا بخلاف الثاني فانه مخصوص بالعقود وذلك من جهة ظهور لفظة " ما " الموصولة في الاعم من العقد والايقاع بخلاف لفظ " العقد " المذكور في الجملة الاخيرة فانه لا يمكن أن يكون أعم من نفسه ومن غيره. فبناء على كون القاعدة الكلية هو الاول فيشمل الجعالة والخلع أيضا وبناء على الثاني تكون مختصة بالعقود أعم من أن يكون لازما أو جائزا. وأما الضمان فقد ذكرنا أن المتفاهم العرفي منه أن الشئ بماليته يكون على العهدة وبينا معنى كون الشئ في العهدة وانه بوجوده الاعتباري هناك لا بوجوده الخارجي فانه غير معقول وهذا المعنى هو الجامع بين ضمان المسمى والضمان الواقعي غاية الامر في ضمان المسمى يعينون مالية ذلك في مقدار معين من النقود أو في عين من الاعيان المتمولة وأما مع عدم تعيين مالية الشئ في نقد أو جنس من الطرفين - أي الضامن والمضمون - فقهرا يكون الضمان عبارة عن اشتغال ذمته بذلك الشئ بواقع ماليته على الترتيب الذي تقدم من الجهات الثلاث. فليس الضمان في الضمان الواقعي
مغايرا بحسب المفهوم والمعنى مع ضمان المسمى بل كلاهما بمعنى واحد غاية الامر في الضمان المسمى برضاية الطرفين بل بالتزامهما تعين في شئ فمع إمضاء العقلاء والشارع يجب عليهما العمل بما إلتزما. فظهر مما ذكرنا أنه بناء على تمامية هذه القاعدة واعتبارها فالضمان في الصحيح
[ 112 ]
والفاسد بمعنى واحد غاية الامر في الصحيح حيث أن المتعاملين عينا ضمان كل واحد من العوضين في الآخر والتزما بذلك وأمضى الشارع هذه المعاوضة والالتزام من الطرفين فيجب على كل واحد منهما الوفاء بالتزامه. وأما في الفاسد حيث أن الشارع لم يمض تلك المبادلة وذلك الالتزام الذى التزم به الطرفان فلا يجب الوفاء فلا يبقى محل ومجال لضمان المسمى فان دلت هذه القاعدة - كما هو مفادها - أن في الفاسد أيضا ضمان فلابد وأن يكون هو الضمان الواقعي أي المثل أو القيمة بعد تعذر المثل أو تعسره فالضمان في الفاسد على تقدير ثبوته بعد تلف المقبوض بالعقد الفاسد بالمثل أو القيمة يكون على طبق القاعدة. وخلاصة الكلام أن مفاد هذه القاعدة هو أن المقبوض بالعقد الفاسد أو بالايقاع الفاسد بناء على التعميم لا يذهب هدرا بل مضمون على القابض بمعنى أن نفس المقبوض والمأخوذ بوجوده الاعتباري في عهدة القابض وفي ذمته ولا يفرغ إلا بأدائه إلى صاحبه وأداؤه ما دام كان المال المأخوذ موجودا يكون بأداء نفس العين المأخوذة ومع تلفه فبالمثل إن كان مثليا وبالقيمة إن كان قيميا. فما ذكره ابن إدريس - من أن المقبوض بالعقد الفاسد يجري مجرى الغصب عند المحصلين إلا في الاثم 1 لا يخلو من وجه. ومدرك هذا الحكم الكلي هي قاعدة على اليد أي قوله صلى الله عليه وآله: " وعلى اليد ما أخذت حتى تؤدي " وفي بعض النسخ " حتى تؤديه " وقد تقدم في الجهة الاولى كيفية
دلالة الحديث الشريف على الضمان نعم فيما إذا كان صاحب المال المقبوض أعطاه مجانا بحيث لو كان هذا العقد الفاسد فعلا صحيحا لما كان على القابض شئ ولم يكن ضامنا لا بالمسمى لانه ليس مسمى في البين على الفرض ولا بالضمان الواقعي لانه لا سبب للضمان إلا ما ربما يتخيل من كونه هي اليد التي جعلها صلى الله عليه وآله في الحديث سببا
(1) " السرائر " ج 2، ص 326، وص 488.
[ 113 ]
للضمان ولكن المورد - أي فيما إذا لم يكن الاعطاء بعنوان العوض والمبادلة بل كان تمليكا أو إباحة بلا عوض - خارج عن موضوع الحديث أي عن تحت قاعدة " وعلى اليد " تخصيصا أو تخصصا بمعنى أنه لو أخذنا بظاهر عموم على اليد وقلنا بان لهذه الجملة إطلاق شمولي يشمل كل يد سواء كانت مأذونة من قبل المالك أو من قبل الله أو كانت غير مأذونة فالمورد خارج تخصيصا لانه لا شك في خروج اليد المأذونة عن هذا العموم وعدم شمول هذا الحكم أي الضمان لها. وأما لو قلنا بان المراد من " اليد " التي جعلت في الحديث الشريف موضوعا للضمان خصوص اليد العادية أو غير المأذونة فخارج بالتخصص وهو واضح. ومن هنا يستخرج كلية أخرى عكس الكلية الاولى وهي " كل ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده " وذلك من جهة أن العقد الذي لا يضمن بصحيحه - كالهبة غير المعوضة والعارية غير المضمونة في غير الدرهم والدينار وأمثال المذكورات مما لا ضمان في صحيحها - لابد وأن يكون بناء المتعاقدين على الاخذ والاعطاء مجانا وبلا عوض فأما قاعدة على اليد فلا تشملها لما ذكرنا من خروج المذكورات عن عمومها تخصيصا أو تخصصا. ولا إتلاف في البين لان المفروض هو تلف المقبوض لا إتلافه فليس موجب ضمان في البين أما الضمان الواقعي فقد عرفت أنه لا إتلاف على الفرض ولا تشمله عموم على اليد وأما ضمان المسمى فعدمه من جهة عدم المسمى إذ
المفروض أنه لو كان صحيحا فلا ضمان فكيف يعقل أن يكون في فاسده ضمان المسمى مع أنه بلا مسمى. فتلخص أن مدرك الضمان هي قاعدة على اليد وهي جارية في الكلية الاولى أي ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ولذلك نقول بالضمان وأما في الكلية الثانية فلا تجري ولذلك نقول بعدم الضمان فيما لا يضمن بصحيحه فظهر صحة كلتا الكليتين أصلا وعكسا.
[ 114 ]
وأما البحث في أن الباء في هذه الكلية هل للسببية أو الظرفية لا أثر له بعد وضوح المراد وقد بينا المراد ومفاد الكليتين. ولا شك في استعمال الباء في كلا المعنيين في الكتاب العزيز وفي كلام العرب الذين يستشهد بكلامهم على صحة الاستعمال ولا ظهور في خصوص أحد المعنيين إلا بالقرينة وفي المقام يصح بكلا المعنيين. أما الظرفية فواضح لانه بناء عليها يكون المعنى كل عقد أو إيقاع يكون في صحيحه ضمان ففي فاسده أيضا كذلك. وفي الكلية السلبية أيضا كذلك أي يكون مفادها: كل ما ليس في صحيحه ضمان ففي فاسده أيضا ليس ضمان. وأما السببية فليس المراد السبب التام أي العلة التامة بحيث يكون المؤثر في الضمان هو العقد فقط ولا يكون لشئ آخر دخل فيه أصلا لان مثل هذا المعنى لا يمكن الالتزام به حتى في الصحيح فضلا عن الفاسد إذ لا شك في مدخلية القبض فيه أيضا في الضمان لما تقرر في محله من أن تلف المبيع بل الثمن أيضا قبل القبض من مال صاحبه الذي كان له قبل وقوع المعاملة فالعقد في الصحيح أيضا ليس تمام الموضوع لضمان كل واحد من المتعاملين لمال صاحبه بل الموضوع هو العقد مع القبض وفي الفاسد أيضا العقد باعتبار كونه مصداقا للاقدام مع القبض باعتبار كونه مصداقا لليد. وأما ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس سره في هذا المقام من أن شرطية القبض لكون العقد
سببا للضمان 1 لا ينافي استناد الضمان إلى العقد إن كان مراده أن شرطية القبض لا ينافي كون العقد تمام الموضوع وسببا تاما للضمان فلا يخلو من غرابة. وان كان مراده أنها لا ينافي اقتضاء العقد للضمان ومدخليته فيه فهذا شئ واضح ليس قابلا للانكار. ولكن الطرف يدعى أن العقد الفاسد أيضا له تأثير ومدخلية في الضمان باعتبار كونه مصداقا للاقدام كما بينا وتقدم. ثم إن العموم في هذه الكلية أصلا وعكسا - سواء كان الاصل كل عقد يضمن أو
(1) " منية الطالب " ج 1، ص 120.
[ 115 ]
كل ما يضمن - هل هو باعتبار الانواع أو الاصناف أو الاشخاص؟ الظاهر هو الاخير. والاشكال عليه - بأن الشخص لا يمكن أن يكون مقسما للصحيح والفاسد بل إذا كان صحيحا فهو صحيح دائما وإلى الابد ولا يتغير عما هو عليه وإلا يصير شخصا آخر وكذلك في العكس أي إذا كان فاسدا فهو لا يتغير عما هو عليه - لا يرد لانه ليس المراد أن هذا الشخص الخارجي الذي صحيح وفاسد صحيحه كذا وفاسده كذا بل المراد أن كل عقد أو إيقاع كان بحيث أنه على تقدير أن يكون صحيحا فيكون فيه الضمان فهو على تقدير فساده أيضا يكون فيه الضمان أي بعد القبض وكل عقد أو إيقاع على تقدير صحته لا يوجب الضمان لانه أقدم على أن يكون مجانا وبلا عوض فهو على تقدير فساده أيضا لا يوجب الضمان لانه أقدم على أن يكون بلا عوض ومجانا فيكون بواسطة هذا الاقدام خارجا عن تحت عموم على اليد تخصيصا أو تخصصا. وهذا الحكم عام يشمل جميع أشخاص طبيعة العقد أو الايقاع. إن قلت: إن ظاهر الكلية هو أن كل شخص من أشخاص العقد بناء على أن يكون العموم بلحاظ الاشخاص والافراد لا الانواع والاصناف فعلا يكون مقسما
للقسمين أي كل واحد منهما فعلا واجد للصحة والفساد وهذا محال لاجتماع الضدين أو النقيضين وكيف يكون عقد شخصي واحد متصفا بالصحة والفساد معا. قلنا: ليست هذه الجملة بهذه الصورة وهذه الالفاظ واردة في آية أو رواية معتبرة حتى تقول يجب الاخذ بظاهرها وظاهرها كذا وكذا بل لابد من الاخذ بها بمقدار ما يدل عليه مدركها. ولا شك في أن مدركها بناء على ما تقدم أنه قاعدة على اليد بضميمة عدم الاقدام مجانا كي يكون من باب تخصيص القاعدة أو تخصصها به بل دخل في المعاملة واقدم على الاعطاء بعنوان المبادلة والمعاوضة لا مجانا فكل مورد انطبق عليه أحد هذين الضابطين يحكم بحكمه بمعنى أن كل عقد لا يكون بعنوان
[ 116 ]
المبادلة والمعاوضة بحيث لو كان صحيحا واجدا لجميع الاجزاء والشرائط المعتبرة فيه شرعا وعرفا ولا يكون فيه مانع من الموانع فمع ذلك لا يوجب الضمان لانه أقدم على إعطاء ماله مجانا وبلا عوض فلا تؤثر اليد في الضمان فيكون فاسده أيضا كذلك. وكل مورد يكون صحيحه موجبا للضمان لعدم إقدامه مجانا ففاسده أيضا كذلك. وذلك من جهة أن الصحة والفساد لا دخل لها في الضمان وعدمه بل المناط كل المناط هو وقوع اليد على مال الغير مع إقدام ذلك الغير على الاعطاء بعنوان المعاوضة والمبادلة فيكون فيه الضمان أو بلا تعويض فليس فيه ضمان. وأنت خبير بأن هذا حكم تقديري يشمل جميع أشخاص العقود كسائر القضايا الحقيقية المقدرة الوجود ولا خصوصية لهذه القضية من بين سائر القضايا الحقيقية حتى يقع مورد البحث والاحتمالات والنقض والابرام. الجهة الثالثة في موارد تطبيق هذه القاعدة وقد عرفت جريانها في جميع العقود المعاوضية.
فمنها: البيع ففي صحيحه ضمان لانه عبارة عن تمليك عين متمول بعوض مالي وكذلك في فاسده لما ذكرنا مفصلا فلا نعيد. نعم لو قال: بعتك بلا ثمن وقبض الطرف فهذه القاعدة تقتضي عدم الضمان لان مثل هذا البيع على تقدير صحته لا ضمان فيه لانه أقدم مجانا وبلا عوض. ومنها: الاجارة ومعلوم أن صحيح الاجارة موجب للضمان بالنسبة إلى منافع العين المستأجرة سواء استوفي المنافع أو لم يستوفها ولكن بعد قبض العين المستأجرة فكذلك في فاسدها يكون ضامنا للمنافع بعد قبض العين التي استأجرها سواء
[ 117 ]
استوفى تلك المنافع أم لم يستوفها. لا يقال: تلك المنافع غير المستوفاة لم تقع تحت اليد كي يكون ضمانها ضمان اليد ولا استوفاها كى يكون ضمان الاستيفاء لقاعدة احترام مال المؤمن ولا العقد صحيح كي يكون ضمان المسمى بواسطة لزوم الوفاء بالعقد فبأي وجه يكون ضامنا للمنافع غير المستوفاة. لانا نقول: الضمان ضمان اليد لان اليد على العين يد على المنافع لانه لا شك في أن المراد من اليد ليس هي الجارحة المخصوصة حتى يقال إن المنافع غير المستوفاة معدومة فكيف تقع تلك الاشياء المعدومة تحت الجارحة المخصوصة بل المراد من اليد هو الاستيلاء ولا شك في أن المستولي على العين المستأجرة مستول على منافعه الموجودة وغير الموجودة التي يمكن استيفاؤها. هذا كله بالنسبة إلى المنافع وأما بالنسبة إلى نفس العين فالاقوال فيها مختلفة وبعضهم قالوا بالضمان مع عدم الضمان في الصحيح منها لو تلفت العين المستأجرة بدون تعد وتفريط لانها أمانة مالكية سلمها إلى المستأجر لاستيفاء حقه من تلك العين ويجب على المؤجر التسليم للزوم الوفاء بالعقد فيد المستأجر في الاجارة الصحيحة
يد مأذونة من قبل المالك ويد استحقاق لا يوجب الضمان. وأما في الفاسدة فليست يد مأذونة واستحقاق بل تسليمها إلى المستأجر ليس إلا من جهة تخيل المؤجر استحقاقه وهو في الواقع ليس بمستحق فتكون يده يد غصب وعدوان فيضمن المقبوض. ونسب هذا القول في الرياض إلى مجمع الفائدة للاردبيلي مدعيا أنه المفهوم من كلمات الاصحاب 1 فبناء على هذا يكون هذا نقضا على الكلية السلبية أي جملة " ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده " لان الاجارة الصحيحة لا يضمن فيها العين
(1) راجع: " رياض المسائل " ج 2، ص 8.
[ 118 ]
بالتلف السماوي بدون تعد وتفريط مع أنه في فاسدها ضمان بناء على هذا القول. وبعض آخر قالوا بعدم الضمان وبه صرح العلامة قدس سره في التذكرة 1 وأيضا في جامع المقاصد استظهر القول بعدم الضمان من كلمات الاصحاب حيث قال في باب الغصب: إن الذي يلوح من كلامهم هو عدم ضمان العين المستأجرة فاسدة لكنه هو نفسه قال: والذي ينساق إليه النظر هو الضمان لان التصرف فيه حرام لانه غصب فيضمنه 2. والتحقيق في هذا المقام هو أن يقال: إن كانت العين داخلة في مصب الاجارة فلا ضمان لا في صحيحها ولا في فاسدها وذلك أما في صحيحها فمن جهة أن مالك العين المستأجرة يلزم عليه تسليم العين المستأجرة إلى المستأجر فتكون يد المستأجر يد مأذونة من قبل المالك ويد استحقاق فلا موجب للضمان وهو واضح وأما في فاسدها فمن جهة أن العين حيث أنها مصب الاجارة فدخل المالك على عدم الضمان بهذا الاستيلاء. وقد عرفت أن إقدام المالك على تسليم ماله إلى الطرف بعنوان عدم الضمان يوجب عدم تأثير اليد في الضمان بل يوجب تخصيصه أو تخصصه.
وأما إن لم تكن داخلة في مصب الاجارة بمعنى أن الاجاره تتعلق بالمنفعة لا بالعين ففي الصحيح منها وان كان أيضا لا ضمان بالنسبة إلى العين من جهة أن استيفاء المنفعة حيث أنه متوقف على تسليم العين في مثل إجارة الدار للسكنى والدكان للاشتغال فيه فيجب على المؤجر إعطائها وتسليمها إلى المستأجر من باب كونه مقدمة لتسليم المنفعة إليه حيث أنه بدونه لا يمكن فليس يد المستاجر القابض يد ضمان. ولكن عدم الضمان ليس من جهة أن هذا العقد ليس فيه ضمان حتى يقال في فاسده أيضا لا ضمان بحكم الكلية الثانية أي الكلية السلبية لانه أمر خارج عن
(1) " تذكرة الفقهاء " ج 2، ص 318. (2) " جامع المقاصد " ج 1، ص 216.
[ 119 ]
مصب العقد. وأما في الفاسدة فالضمان فيها بناء على هذا - أي بناء على عدم دخول العين في مصب الاجارة - يكون على طبق القواعد الاولية لان يده وقعت على مال الغير من دون كونه مقدما على إعطاء ماله لاستحقاق الطرف لان المفروض أن الاجارة باطلة ولا استحقاق للطرف أصلا. هذا على حسب كل واحد من الاحتمالين. ولكن الظاهر في إجارة الاعيان أن العين داخلة في مصب الاجارة وحقيقة الاجارة في إجارة الاعيان وان كانت عبارة عن تمليك منفعة العين بعوض مالي معلوم ولكن تمليك المنفعة ليس بعنوانها مستقلة بل بعنوان أنها من صفات العين وعوارضها فالاجارة متعلقة بالعين ومعنى إجارة العين تمليك منفعتها المعلومة بعوض معلوم ولذلك يقول المؤجر في مقام إنشاء الاجارة " آجرت هذه الدار أو هذا الدكان مثلا بكذا " ويفهم العرف من هذه العبارة أنه ملك منفعة الدار أو الدكان أو الانتفاع بهما للمستأجر فالاجارة المتعلقة بالعين تفيد هذا المعنى حتى فيما تكون المنفعة من
الاعيان كالثمرة التي على الشجرة وكالحليب في الشاة المنحة تلاحظ في إجارة الشجرة والشاة المنحة بوجودها التبعي أي الوصفي العرضي وإلا يكون بيعا للثمرة والحليب لا إجارة. وحاصل الكلام أن الاجارة تتعلق أولا وبالذات بالعين غاية الامر باعتبار وصفها وعرضها الكذائي. ويمكن أن يقال في باب الاجير أيضا يكون الامر كذلك وان كان الاجير حرا أي تعلق الاجارة بنفس الحر باعتبار الانتفاع بعمله الكذائي والشاهد على ذلك أن في عقد الاجارة الاجير يقول " آجرتك نفسي لعمل كذا " فتكون العين دائما في جميع أقسام الاجارات داخلة في مصب الاجارة ومتعلقة لها ففي جميع أقسام الاجارات الفاسدة يكون الضمان بالنسبة إلى العين تابعا للضمان في الصحيحة وحيث لا ضمان في
[ 120 ]
الصحيحة منها لما ذكرنا من أن يد المستأجر يد مأذونة ويد استحقاق فتكون يده عليها بتسليم المالك لها إليه بواسطة لزوم الوفاء بالعقد فلا موجب للضمان وهذا الحكم جار حتى في الاجير إذا كان عبدا أو أمة ففي جميعها تكون اليد يد أمانة مالكية ولا ضمان للعين لو لم يكن تعد ولا تفريط في البين فالكليتان إيجابا وسلبا أي قولهم " كل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده " لا انتقاض فيهما. وأما الاجير إذا كان حرا فلا معنى للضمان لا في الصحيح ولا في الفاسد. ومنها: العارية فان في صحيحها في غير المضمونة وفي غير الذهب والفضة لا ضمان وكذلك في فاسدها في غير ذينك الموردين لعين ما ذكرنا في الاجارة من أن اليد والاستيلاء وقعت باذن المالك مجانا وبلا تعويض فلا تكون اليد يد ضمان لاقدام المالك على المجانية وعدم التعويض بخلاف العقود المعاوضية فان تسليم المالك ماله إلى الطرف هناك بعنوان التعويض وأخذ البدل.
وأما في فاسدها فيما إذا كانت مضمونة كما إذا شرط المعير ضمانها أو كانت عارية الذهب والفضة فمقتضى الكلية الايجابية أي " كل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده " هو الضمان في المذكورات ولكن بناء على ما ذكرنا في وجه الضمان من وقوع اليد على مال الغير وعدم إقدامه على المجانية وعدم التعويض ففي القسم الاول من المذكورات - أي فيما إذا اشترط الضمان - لابد وأن نقول بالضمان لو تلف بعد قبض المستعير كما هو المفروض لان المالك لم يقدم على المجانية وعدم التعويض بل اشترط العوض. وأما في الثاني - أي فيما إذا كانت عارية الذهب والفضة - فان قلنا بان الضمان حكم تعبدي من قبل الشارع وإلا فالمالك لم يقصد التعويض بل قصد إعطاء ماله للمستعير مجانا وبلا عوض فتكون يد المستعير يد أمانة ولا ضمان. وهذا هو الصحيح كما هو واضح. ومنها: الهبة وهي على قسمين: معوضة وغير معوضة
[ 121 ]
أما الثاني - أي غير المعوضة - فمن أوضح وأجلى مصاديق الكلية السلبية أي " ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده " لاقدام المالك على المجانية وكون الاعطاء بلا قصد تعويض فيد القابض يد مأذونة فلا ضمان. وأما الاول - أي المعوضة - فان كان العوض بازاء الموهوب ففي الصحيح والفاسد في كليهما الضمان لان المالك لم يقدم على الاعطاء مجانا فلا مخصص لعموم " على اليد ". وان كان العوض بازاء هبة الآخر الشئ الفلاني بمعنى أنه هبة بازاء هبة لا الموهوب بازاء الموهوب فلا ضمان لا في الصحيح ولا في الفاسد لانه لم يقصد باعطائه المال الموهوب المبادلة والتعويض فهو في الحقيقة يرجع إلى أنه أعطاه مجانا وبلا عوض غاية الامر اشترط عليه أن يهبه الشئ الفلاني فان لم يفعل يكون للواهب
خيار تخلف الشرط. ومنها: الصلح وهو أيضا على قسمين: بلا عوض ومع العوض. فالاول حاله حال الهبة غير المعوضة أي لا ضمان فيه لا في الصحيح منه ولا في الفاسد. وأما الثاني - أي الصلح مع العوض - فحكمه حكم البيع فيكون مشمولا لكلتا القاعدتين أي الاصل والعكس. أما الاصل: فلان المفروض أن صلح المال الفلاني بعوض مسمى معناه تضمينه بذلك المسمى وتبديله به ولذلك ربما يقال إن الصلح الواقع على الاعيان المتمولة بعوض مالى هو عين البيع وإن كان هذا غير صحيح لان المنشأ بعقد الصلح هو عنوان التسالم ابتداء غاية الامر التسالم على مثل هذه المبادلة وأما المنشأ بعقد البيع ابتداء هو نفس المبادلة فالنتيجة أن إقدام المالك في مثل هذا الصلح ليس مجانا وبلا عوض ففي صحيحه وفاسده الضمان.
[ 122 ]
ومنها: الرهن فان صحيحه لا يوجب الضمان لان الراهن يسلم المال المرهون إلى المرتهن ليكون وثيقة لدينه ولا يقصد بذلك الاعطاء والتسليم المعاوضة والمبادلة فتكون أمانة مالكية عند المرتهن فيد المرتهن على ذلك المال يد مأذونة ولا يوجب الضمان وتكون خارجة عن مفاد " على اليد " تخصصا أو تخصيصا. فكذلك فاسده أيضا لا يوجب الضمان وذلك لوحدة السبب فيهما وهي إقدامه في إعطائه وتسليمه إلى المرتهن على عدم الضمان في كلتا الصورتين. ومنها: عقد السبق ففي الصحيح منه يستحق السابق السبق فالعمل الذي يصدر من السابق فيه ضمان المسمى أي السبق المعين وهذا مما لا شك فيه إذ ليس المراد من الصحة إلا هذا المعنى فمقتضى هذه القاعدة أي قاعدة كل ما يضمن بصحيحه يضمن
بفاسده أن يكون في فاسده أيضا ضمان غاية الامر ليس الضمان ضمان المسمى لانه منوط بالصحة فلابد وأن يكون أجرة مثل عمله لان عمله محترم ولم يقدم على إيجاده بدون عوض بل كان إقدامه على هذا العمل بعنوان أخذ السبق. إن قلت: في هذا المورد ليست يد في البين كي تكون سببا للضمان. قلنا: إن سبب الضمان هنا قاعدة احترام عمل المسلم حيث أن هذا العمل صدر منه بسبب التزام الطرف باعطاء السبق له لو كان سابقا فعمله محترم وان كان من جهة فساد هذا العقد لا يستحق مال الذي عين للسابق أي المسمى ولكن عمله لا يكون هدرا ولغوا إلا أن يكون من الاعمال المحرمة التي ألغى الشارع ماليتها أو من أعمال السفهاء الذي لا اعتبار لها عند العقلاء كبعض الاعيب السفهاء والصبيان. وخلاصة الكلام هو أنه في كل عقد أو إيقاع كان في صحيحه الضمان - سواء كان ضمان المسمى بدل المال الذي يسلمه إليه الطرف أو العمل الذي يعمله كعمل الاجير في عقد الاجارة أو عمل العامل في الجعالة أو عمله في عقد السبق والرماية - ففي فاسده الضمان أيضا إما من جهة اليد على مال الغير مع عدم الاقدام على المجانية من
[ 123 ]
قبل صاحب المال حتى تكون يده يد مأذونة ولا تكون سببا للضمان بل تكون خارجة عن عموم على اليد تخصيصا أو تخصصا كما تقدم. وإما من جهة احترام عمل المؤمن مع عدم إقدام العامل مجانا. وأما لو لم يكن في صحيحه الضمان من جهة عدم قصد المبادلة والمعاوضة في إعطاء ماله أو عدم قصد التعويض في عمله ففي فاسده لا ضمان أيضا لعدم تحقق سبب الضمان لا قاعدة " وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه " ولا قاعدة " الاحترام ". وقد تقدم شرحهما مفصلا. ثم إن هيهنا نقوض أوردوها على الكلية السلبية والايجابية ولذلك قالوا بعدم
إطراد هاتين الكليتين في موارد: منها: فيما إذا استعار المحرم صيدا من المحل فقالوا: إنه يجب على المحرم المستعير إرساله فورا ويكون ضامنا لصاحب الصيد بالقيمة. وهذا النقض مبني على فساد هذه العارية ووجوب إرساله لا وجوب رده إليه فحينئذ يقال إن العارية لا يضمن بصحيحها في غير المضمونة وغير الذهب والفضة ومع ذلك حكموا هيهنا في فاسدها بالضمان. واجيب عن هذا النقض بان الضمان ليس هيهنا مستندا إلى العقد بل من جهة الاتلاف والاتلاف في العارية الصحيحة أيضا موجب للضمان. واما كون الضمان من جهة الاتلاف لا التلف السماوي فلما قالوا بخروج الصيد عن ملك مالكه بمحض قبض المحرم وأخذه إياه من يد المالك فيكون بناء على هذا نفس الاخذ والقبض إتلافا ويكون خارجا عن مورد القاعدة. وفي هذه المسألة وجوه واحتمالات أخر ليس هيهنا محل ذكرها والنقض والابرام فيها. ومنها: النقض على الكلية الايجابية - أي الاصل لا العكس - وهي " كل ما يضمن
[ 124 ]
بصحيحه يضمن بفاسده " بالنسبة إلى المنافع غير المستوفاة فانها غير مضمونة في البيع الصحيح ومضمونة في الفاسد. وفيه: أن الضمان في الصحيح عبارة عن المسمى والمسمى في الصحيح موجود بدل العين فبعوض ملكية العين يشتغل ذمته بالمسمى، والمنافع مطلقا سواء كانت مستوفاة أو غير مستوفاة من توابع العين فإذا كانت العين مضمونة فالمنافع أيضا مضمونة كما هو الظاهر من قوله صلى الله عليه وآله: " الخراج بالضمان " 1 أي المنافع التي للعين تكون لمن انتقل إليه العين بواسطة ضمان المسمى فكان المسمى في البيع الصحيح عوض
العين ومنافعه فلا نقض. ومنها: تلف الاوصاف فليس في العقد الصحيح لها ضمان لان الضمان فيه بإزاء العين ولم يجعل شئ من الثمن المسمى مقابل الاوصاف. وأما في الفاسد لو تلف جميعها أو بعضها يكون القابض ضامنا لقاعدة " على اليد " بضميمة عدم كونه مأذونا فتكون اليد يد ضمان. ويمكن أن يقال هيهنا أيضا مثل ما قلنا في المنافع غير المستوفاة من أنها تابعة للعين فكان ضمان العين ضمانها أيضا فهكذا صفات العين في الضمان تابعة للعين ولو أنه ليس لها ضمان مستقل مقابل ضمان العين لكن ضمان العين ضمانها أيضا فبناء على هذا في الصحيح أيضا لها ضمان فلا ينخرم القاعدة. ومنها: فيما إذا كان المبيع حاملا فتلف الحمل في يد المشتري ففي الصحيح لا ضمان لان ضمان المسمى وقع مقابل نفس المبيع والحمل مملوك بالتبع بناء على كونه مملوكا للمشتري وإلا فبناء على بقائه على ملك البائع كما هو المشهور إلا مع شرط الدخول فهو خارج عن محل كلامنا. وأما في الفاسد فللحمل ضمان غير ضمان نفس الحامل. وفيه: أنه إن قلنا بان الحمل ليس داخلا في المبيع وباق على ملك البائع فهو
(1) " مستدرك الوسائل " ج 13، ص 302، أبواب الخيار، باب 7، ح 15428.
[ 125 ]
خارج عن مصب العقد وأجنبي عن المعاملة ولا ضمان له لا في الصحيح ولا في الفاسد. أما في الصحيح لانه كما قلنا أجنبي عن المعاملة فلا ربط له بالعقد حتى يشمله ضمان المسمى. وأما في الفاسد فلا ضمان له لانه أمانة مالكية عنده لا يضمنه إلا بالتعدي والتفريط. وهذا كما لو اشترى البستان مع أشجاره المثمرة التي ثمرتها موجودة عليها فلو قلنا
بان الثمرة الموجودة ليست داخلة في المبيع وخارجة عنه انصرافا أو بواسطة تقييد البائع ففي الصحيح والفاسد من هذه المعاملة لا ضمان للثمرة الموجودة على الشجرة أما الصحيح لانها خارجة عن المعاملة ومصب العقد فلا يكون شئ من المسمى بازائها وأما الفاسد لانها أمانة مالكية وقد تلفت بدون تعد وتفريط على الفرض. وأما إن قلنا بان الحمل وكذلك الثمرة الموجودة على الشجرة داخل في المبيع ففي الصحيح والفاسد كلاهما ضمان أما في الصحيح فلان المسمى وقع بازاء المجموع من الحامل وحمله وأيضا في المثال الثاني بازاء مجموع الشجرة وثمرتها. وأما في الفاسد فلوقوع اليد على كليهما أي الحامل والحمل وكذلك على الشجرة والثمرة والمفروض أن اليد ليست مأذونة ويد ضمان لان الكلام بعد الفراغ عن ضمان أصل الحامل فكذلك الشجرة في المقبوض بالعقد الفاسد فلا نقض على اطراد القاعدتين أي الكلية الايجابية والسلبية. وهذا الحكم الذي ذكرنا إشكالا وجوابا جار في مطلق توابع المبيع كالحليب و غيره فان قلنا بدخولها في المبيع فحالها حال نفس المبيع بالنسبة إلى الضمان في الصحيح والفاسد وان قلنا بخروجها فلا ضمان لا في الصحيح ولا في الفاسد إلا بسبب آخر. وأما تحقيق أن أيا منها داخل في المبيع وان أيا منها خارج فله محل آخر وهو كتاب البيع في فصل ما يدخل في المبيع وما لا يدخل.
[ 126 ]
ثم إن شيخنا الاعظم قدس سره ذكر في هذا المقام أنه يمكن النقض أيضا بالشركة 1. والظاهر أن مراده شركة الاموال بعقد الشركة فيكون النقض عبارة عن أن أحد الشريكين مثلا في الشركة الصحيحة لو تصرف في المشترك وصار تحت يده - كما هو المتعارف عند الشركاء - فتلف ذلك المال من دون تعد وتفريط لا يكون ذلك الشريك ضامنا لحصة شريكه الآخر وهذا مقتضى صحة عقد الشركة وأما لو لم يكن العقد
صحيحا وكانت الشركة فاسدة فيكون ذلك الشريك ضامنا لقاعدة " وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه " ولابد من فرض التلف في صورة عدم إذن ذلك الشريك الآخر في التصرف فلا إذن من طرف المالك ولا أن جواز التصرف مقتضى عقد الشركة فلا يكون المال لا أمانة مالكية ولا أمانة شرعية فتكون اليد يد ضمان. وهذا بخلاف الصحيح فانه وان لم يكن إذن من طرف الشريك حتى يكون المال عنده أمانة مالكية ولكن الاذن من طرف الشارع بمقتضي صحة عقد الشركة فيكون من قبيل الامانة الشرعية فلا ضمان فلا تكون القاعدة مطردة. وفيه: أن هذا مبني على جواز التصرف بصرف حصول الشركة الصحيحة وإن كان بدون إذن الشريك الآخر وهو لا يخلو من إشكال. ومما يمكن أن يكون نقضا على الكلية الايجابية التي نسميها بالاصل مقابل الكلية السلبية التي نسميها بالعكس هو النكاح الدائم أو المتعة الفاسدين إذا كان الزوج جاهلا بالفساد من جهة الموضوع وكانت المرأة عالمة به فقالوا إن الزوج في مثل المفروض لا يضمن المهر مع أنه لو كان العقد صحيحا كان يضمن قطعا. وقد يجاب أولا: عن هذا النقض بان هذا المفروض خارج عن محل البحث و مورد القاعدة، لان موردها العقود المعاوضية التي يقع العوض فيها تحت اليد وما نحن فيه من مورد النقض ليس كذلك وليس من العقود المعاوضية أولا وعلى
(1) " المكاسب " ص 103.
[ 127 ]
الفرض لا تقع المرأة تحت اليد ثانيا. وفيه: أن ظاهر هذه القاعدة عام يشمل كل عقد سواء كان مما ذكر أو لم يكن. وثانيا: بان عدم الضمان لدليل خارجي ولكونها بغيا لا ينافي اقتضاء العقد للضمان في حد ذاته ونفسه ولذلك لو كانت المرأة أيضا جاهلة بالفساد فلها حق على الزوج.
وفيه: أن ظاهر الكلية أن كل عقد صحيح يكون فيه الضمان ففي فاسده بالفعل ضمان لا أن في فاسده اقتضاء الضمان إلا أن يمنع مانع عنه أو يأتي دليل على عدمه فلا يمكن الموافقة مع شيخنا لاستاذ قدس سره في كلا الجوابين 1. ومما يتوهم أن يكون نقضا على الكلية الايجابية بيع الغاصب مال الغير فلو تلف المبيع عند البائع الغاصب قالوا بعدم ضمان الغاصب الثمن للمشتري لو تلف الثمن عنده لانه أي المشترى سلط البائع الغاصب على الثمن مجانا إن كان عالما بان البائع غاصب مع أنه في البيع الصحيح لو تلف الثمن عند البائع بعد تلف المبيع عنده يكون ضامنا للمشتري بالثمن. وفيه أولا: أن مثل هذه المعاملة ليست فاسدة بل فضولي موقوف على إجازه المالك أي المغصوب منه فإذا أجاز تعد من المعاملات الصحيحة يترتب عليها جميع آثار البيع الصحيح. وثانيا: طرف المعاملة أي البائع في هذه المعاملة ليس هو الغاصب بل هو أجنبي والثمن الذي أعطاه المشتري ليس ثمنا للمبيع مع علمه بانه غاصب بل يكون مال له أعطاه للغاصب مجانا وبلا عوض فلا يترتب على تلفه آثار تلف الثمن فلا يكون نقضا على هذه الكلية أصلا. ومما توهم أنه نقض على هذه الكلية بيع الشخص ماله من سفيه محجور عليه فتلف المبيع عند السفيه فقالوا بعدم ضمان السفيه للمبيع مع أن تلف المبيع عند
(1) " منية الطالب " ج 1، ص 129.
[ 128 ]
المشتري بعد قبضه وعدم خيار للمشتري فقط دون البائع يوجب ضمانه للبائع في البيع الصحيح. وفيه: أنه بعد ما علم البائع أن المشتري محجور عليه ليس له التصرف في أمواله
مطلقا ولو بناقل شرعي فاعطاؤه المبيع لمثل هذا الشخص يكون إقداما منه على تلف ماله وهتك احترامه فيكون إعطاؤه للسفيه وان كان بعنوان البيع من قبيل إلقائه في البحر واتلافه فلو كان عين ماله - أي المبيع - موجودا يمكن أن يقال بجواز استرداده وأما مع تلفه فلا ضمان في البين. ومن جميع ما ذكرنا من أول هاتين القاعدتين - أي الكليتين الايجابية والسلبية - يظهر صحة كلتيهما واطرادهما وعدم ورود النقوض التي ذكروها في هذا المقام. والحمد لله أولا وآخرا والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
[ 129 ]
19 - قاعدة التلف في زمن الخيار
[ 131 ]
قاعدة التلف في زمن الخيار * ومن جملة القواعد الفقهية المشهورة المسلمة عند الاصحاب قاعدة " التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له ". وفيها جهات من البحث: الجهة الاولى في مستندها وهو أمور: الاول: الاخبار: منها: صحيحة ابن سنان: عن الرجل يشتري الدابة أو العبد ويشترط إلى يوم أو يومين، فيموت العبد أو الدابة أو يحدث فيه حدث على من ضمان ذلك؟ فقال: " على البائع حتى ينقضي الشرط ثلاثة أيام ويصير المبيع للمشتري شرط له أم لم
يشترط. وإن كان بينهما شرط أياما معدودة فهلك في يد المشتري فهو من مال البائع " 1. ومنها: رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله البصري مولى بنى شيبان قال: سألت
*. " الحق المبين " ص 80، " القواعد " ص 101 و 105، " قواعد فقه " ص 278، " القواعد الفقهية " (مكارم الشيرازي) ج 4، ص 391، " المبادى العامة للفقه الجعفري " ص 268. (1) " تهذيب الاحكام " ج 7، ص 24، ح 103، باب عقود البيع، ج 20، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 352، أبواب الخيار، باب 5، ح 2.
[ 132 ]
أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل اشترى أمة بشرط من رجل يوما أو يومين، فماتت عنده، و قد قطع الثمن على من يكون ضمان ذلك؟ قال: " ليس على الذي اشترى ضمان حتى يمضي بشرطه " 1. ومنها: النبوي المروى في الوسائل عن محمد بن الحسن باسناده عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال عليه السلام: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله في رجل اشترى عبدا بشرط ثلاثة أيام فمات العبد في الشرط؟ قال: يستحلف بالله ما رضيه ثم هو برئ من الضمان " 2. ومنها: ما عن الوسائل عن الصدوق باسناده عن ابن فضال عن الحسن بن رباط عن من رواه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " إن حدث بالحيوان حدث قبل ثلاثة أيام فهو من مال البائع " 3. وظاهر هذه الاخبار - كما هو واضح - أن تلف المبيع في يد المشتري - وهي عبارة أخرى عن قبضه للمبيع إذا كان الخيار للمشتري فقط دون البائع - يكون من كيس البائع أي: ممن ليس له الخيار، وهذا هو مفاد القاعدة أي: التلف في زمن الخيار من مال من ليس له الخيار الذي هيهنا هو البائع. نعم لا يدل على هذه القاعدة بطور الكلية، بل فيما إذا كان من له الخيار هو المشتري
دون البائع ولا يدل فيما إذا كان بالعكس أي: كان الخيار للبائع دون المشتري. هذا أولا وثانيا: لا يدل فيما إذا كان الخيار غير خيار الشرط والحيوان إلا بتنقيح المناط والقاء خصوصية خياري الحيوان والشرط. وهو في غاية الاشكال لان هذا حكم مخالف للقواعد ورد التعبد به فيجب الوقوف على مورده، ومورده خصوص هذين الخيارين وبالنسبة إلى المشتري فقط
(1) " الكافي " ج 5، ص 171، باب الشرط والخيار في البيع، ح 9، " تهذيب الاحكام " ج 7، ص 24، ح 104، باب عقود البيع، ح 21، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 351، أبواب الخيار، باب 5، ح 1. (2) " وسائل الشيعة " ج 12، ص 352، أبواب الخيار، باب 5، ص 4. وفيه: " عن عبد الله بن الحسن... ". (3) " وسائل الشيعة " ج 12، ص 352، أبواب الخيار، باب 5، ح 5.
[ 133 ]
فلا يشمل غيرهما وكذلك لا يشمل فيما إذا كان ذو الخيار غير المشتري. الثاني: الاجماع - وقد ادعاه غير واحد كصاحب الرياض 1 ومفتاح الكرامة 2 - قدس سرهما - ونفى الخلاف في الاخير في هذه القاعدة. ولكن أنت خبير أنه على فرض تسليم وجود الاتفاق وتحققه على هذا الحكم - أي كون التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له - لا اعتبار بهذا الاتفاق لاستناد كثير منهم إلى هذه الروايات فلا يكون من الاجماع المصطلح الذى يكون مسببا عن تلقيه من المعصوم عليه السلام أو يكون مسببا عن وجود دليل معتبر عند الكل وقد ضاع عندنا، مع أن هذا الاخير لا يخلو عن إشكال. فالعمدة في مستند هذه القاعدة هو هذه الروايات التي ذكرناها فالابد من ملاحظتها ومقدار دلالتها. الثالث: كون هذا الحكم مقتضى القواعد الاولية، إذ من له الخيار فقط من المتعاملين وليس للآخر يكون خروج العوض عن ملكه ودخول المقابل متزلزلا إذ
له أن يفسخ ويرجع ما خرج إليه بسبب فسخه فكان التلف يقوم مقام الفسخ فيرجع ما خرج عن ملكه إليه ثانيا فالتالف يذهب من كيس من ليس له الخيار وهو مفاد هذه القاعدة. وأما كون التلف بمنزلة الفسخ فمن جهة أن العقلاء يرون في موارد ثبوت الخيار - خصوصا في خيار الشرط وخيار الحيوان - أن ذا الخيار يتأمل وينظر في أنه هل إبقاء هذه المعاملة من صلاحه أو لا بل صلاحه حله وفسخه؟ فإذا تلف أحد العوضين فيما إذا كان التالف ما انتقل إلى ذي الخيار كما إذا كان الشرط للمشتري فقط وتلف المبيع وكما في خيار الحيوان إذا كان المبيع حيوانا ووقع التلف عليه عند
(1) " رياض المسائل " ج 1، ص 528. (2) " مفتاح الكرامة " ج 4، ص 599.
[ 134 ]
المشتري كما هو مورد الروايات بناء على اختصاص خيار الحيوان بالمشتري فيما إذا كان المبيع حيوانا كما هو المشهور فلا يبقى مجال للتأمل والنظر وقهرا تنفسخ المعاملة ويرجع الثمن إلى ملك من له الخيار أي المشتري ويذهب الثمن من كيس من ليس له الخيار أي البائع. وحاصل ما ذكرنا: أن ملكية ذي الخيار لما دخل في ملكه بسبب المعاملة متزلزل وكذلك خروج ما خرج متزلزل متوقف على بقاء ما دخل في ملكه فإذا وقع عليه التلف فقهرا تنفسخ المعاملة ولا يبقى مورد للتأمل والنظر حتى يختار الفسخ أو الابرام فحكمة جعل الخيار في الحيوان ثلاثة أيام أو جعل اخيار والشرط من نفس المتعاقدين تقتضي أن يكون الضمان - أي المسمى - ينتقل ثانيا ممن ليس له الخيار إلى الذي له الخيار. وفيه: أن هذا صرف استحسان لا يمكن أن يكون منشأ للحكم الشرعي ومقتضى
القواعد الاولية - حيث أن المعاملة بالقبض تمت وصار المبيع ملكا تاما للمشتري وتلف في يده - أن لا يكون ضمان في البين أصلا ولا يكون المشتري ولا غيره ضامنا أما المشتري فلان ماله تلف في يده على الفرض والانسان لا معنى لان يكون ضامنا لنفسه بواسطة تلف ماله عنده وأما غيره - أي البائع - لان غيره أجنبي هيهنا فمن جهة أن المعاملة والمعاوضة تمت ومال كل واحد منهما انتقل إلى الآخر بعوض مال الآخر وما انتقل إلى المشتري تلف في يده فالبائع أجنبي عنه فلا وجه لان يكون ضامنا لتلف مال شخص آخر في يد نفس ذلك الشخص. نعم كان لذلك الشخص الآخر - أي المشتري مثلا وفي المفروض - خيار الفسخ لو كان يعمله وكان يفسخ لكان الثمن يرجع إليه وأين هذا من ضمان البائع بصرف التلف ومن دون الفسخ.
[ 135 ]
الجهة الثانية في مفاد هذه القاعدة ومقدار دلالتها من حيث العموم والخصوص فنقول: لو كانت هذه الجملة والكلية أي جملة " التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له " بهذه الالفاظ واردة ومنصوصة أو كانت معقد إجماع لكانت شاملة للثمن والمبيع وأيضا كانت تشمل ذا الخيار مطلقا سواء كان خيار الحيوان أو الشرط أو غيرهما وذلك من جهة أن لفظ " الخيار " يشمل جميع الخيارات ولفظ " من لا خيار له " يشمل البائع والمشتري ولفظ " التلف في زمن الخيار " يشمل المبيع والثمن. ولكن الامر ليس كذلك أي هذه الجملة بهذه الالفاظ ليست مروية في خبر أو حديث ولا مما انعقد الاجماع على هذا العنوان بحيث يكون معقد الاجماع هذه الجملة بألفاظها حتى يمكن التمسك باطلاق تلك الالفاظ بل المدرك لهذه القاعدة ليس إلا تلك الاخبار التي تقدمت فلابد من النظر والتأمل في ظهورها وتشخيص ما هو
المراد منها حتى يعرف مقدار سعة دلالتها وشمولها. فالبحث فيها من جهات: الاولى: في أنه هل مفادها ثبوت هذا الحكم مطلقا وفي أي خيار كان أو في خصوص خيار الحيوان وخيار الشرط؟ أقول: أما صحيحة ابن سنان فقوله عليه السلام في صدرها " على البائع حتى ينقضي الشرط ثلاثة أيام ويصير المبيع للمشتري شرط له أم لم يشترط " ظاهر في خيار الحيوان فقط. وأما ذيلها أي قوله عليه السلام " وان كان بينهما شرط أيام معدودة فهلك في يد المشتري فهو من مال البائع " ظاهر في خيار الشرط فالصحيحة صدرا وذيلا لا تدل على ثبوت هذا الحكم إلا في خيار الحيوان وخيار الشرط. وكذلك الامر في سائر الروايات الواردة في هذا الباب لا تدل على ثبوت هذا الحكم إلا في خيار الشرط أو خيار الحيوان فاثباته في غيرهما من الخيارات يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.
[ 136 ]
وأما تسرية الحكم منهما إلى غيرهما من الخيارات بتنقيح المناط فاشبه بالقياس فالحق أن هذا الحكم مختص بخياري الحيوان والشرط لا يشمل غيرهما وذلك من جهة ما قلنا إن هذا الحكم تعبدي ومخالف للقواعد الاولية ولابد من الوقوف على مورد النص وما هو الظاهر منه وقد عرفت أن ظاهر الروايات هو ثبوت هذا الحكم في خياري الشرط والحيوان دون سائر الخيارات وأيضا فيما إذا كان التلف عند المشتري والخيار له فيضمن البائع الذي ليس له الخيار. وبعبارة أخرى: هذا الحكم في تلف المبيع عند المشتري لا تلف الثمن عند البائع كل ذلك من أجل ظهور الروايات التي وردت في هذا المقام فيما ذكرنا من حصر مورد القاعدة في خصوص خيار الحيوان أو الشرط بالنسبة إلى تلف المبيع عند المشترى لا تلف الثمن عند البائع.
والحاصل: أن الخيار إما خيار شرط وحيوان وإما سائر الخيارات وهذه القاعدة تجري فيهما دون سائر الخيارات وفي تلف المبيع عند المشتري دون تلف الثمن عند البائع كل ذلك لاجل ظهور الروايات فيما ذكرنا بعد الفراغ عن عدم كون هذا الحكم على مقتضى القواعد الاولية. نعم ربما يقال بثبوت هذا الحكم أي شمول هذا القاعدة لخيار المجلس خصوصا إذا كان للمشتري دون البائع كما إذا أسقط البائع خياره لانه لو كان الخيار لكلاهما - أي البيعان - فلا موضوع لهذه القاعدة لانه ليس هناك من ليس له الخيار حتى يكون ضمان التالف عليه فاتيان هذه القاعدة وشمولها لخيار المجلس - مع أنه مجعول في أصل الشرع لكلا المتعاقدين - منوط بسقوط خيار أحدهما وهذا واضح معلوم. فإذا فرضنا سقوط خيار البائع في خيار المجلس وبقاء خيار المشتري فقط فلو قبض المشتري المبيع في المجلس وتلف في يده في نفس المجلس فلو قلنا بشمول هذه القاعدة لخيار المجلس يكون الضمان على البائع لانه ليس له الخيار على الفرض
[ 137 ]
فيرجع الثمن إلى المشتري بدون رجوع شئ إلى البائع. واستظهر شيخنا الاعظم الانصاري قدس سره من قوله عليه السلام في ذيل صحيحة ابن سنان " حتى ينقضي شرطه ويصير المبيع للمشتري " شمولها لخيار المجلس إذا كان للمشتري فقط دون البائع 1. وتقريب استظهاره من هذه الفقرة هو أن ظاهر لفظ " الشرط " في الاخبار هو خيار المجلس فيكون مفاد الصحيحة أن ضمان المبيع على البائع حق ينقضي الشرط أي خيار المجلس الذي للمشتري فحينئذ أي بعد انقضاء خيار المجلس يخرج البائع عن الضمان أما قبله فيكون الضمان عليه وان قبض المشتري المبيع في المجلس. فالمناط في خروج البائع عن الضمان هو انقضاء خيار المشتري لا القبض بل
قوله عليه السلام بعد ذلك " ويصير المبيع للمشتري " يظهر منه أن المناط في سقوط ضمان البائع هو صيرورة المبيع ملكا مستقرا للمشتري بحيث لا يمكن له الفسخ ولو كان هذا هو مناط سقوط ضمان البائع وخروجه عنه فتشمل القاعدة جميع الخيارات إذا كان للمشتري ولا اختصاص لهذا الحكم بخياري الحيوان والشرط وخيار المجلس لان العلة سارية في الجميع. بل يمكن أن يقال بعدم الفرق بين البائع والمشتري في شمول هذا الحكم للبائع أيضا بواسطة هذا التعليل والمناط وهو صيرورته ملكا مستقرا للمشتري بحيث لا يمكن سلبه عن نفسه بفسخ المعاملة نعم لابد وأن يلغى خصوصية المشتري وكون التالف هو المثمن بل لو كان التالف هو الثمن بعد قبض البائع ولكن كان الخيار للبائع فقط فالضمان أيضا على من ليس له الخيار أي المشتري لاجل هذا التعليل أي عدم استقرار ملكية الثمن للبائع بحيث لا يمكن سلبه عن نفسه بواسطة فسخ المعاملة إذ المفروض أن خيار البائع موجود وله أن يفسخ فذلك الملاك والمناط - الذي كان في
(1) " المكاسب " ص 300.
[ 138 ]
صورة خيار المشتري فقط مع تلف المبيع عنده وفي يده موجودا في هذه الصورة أي فيما إذا كان الخيار للبائع فقط مع تلف الثمن في يده موجود أيضا لان الثمن التالف في يده وان كان قبضه ولكن حيث أن خياره باق يمكن له الفسخ وسلبه عن نفسه فذلك التعليل آت هنا أيضا. وبعبارة أخرى: سقوط ضمان البائع في تلك الصورة كان منوطا بانقضاء الخيار وصيرورة المبيع ملكا مستقرا للمشترى بحيث لا يمكن أن يسلب عن نفسه بالفسخ، وهذا المعنى متوقف على انقضاء الخيار فقبل انقضائه لا يسقط ضمان البائع للمثمن ولو تلف في يد المشتري، بل يكون في ضمانه، فليكن سقوط ضمان الشمتري أيضا إذا تلف
الثمن في يد البائع منوطا بانقضاء خيار البائع ويكون قبل انقضاء زمان خياره في ضمان المشتري. ولكن أنت خبير بأن هذا قياس محض. واستشكل شيخنا الاستاذ قدس سره على هذا الوجه لتعميم هذه القاعدة وشمولها لجميع الخيارات سواء أكان أحد هذه الثلاثة - أي خيار الحيوان أو خيار الشرط أو خيار المجلس - أو كان غيرها من الخيارت، بأن كلمة " حتى " قلما تستعمل في العلية، بل يكون معناها غالبا هي الغاية فلا تكون ظاهرة في العلية لكي تكون القاعدة شاملة لجميع الخيارات، بل وللثمن والمثمن 1. ولكنك خبير بأن معنى " حتى " وان كان غالبا هو انتهاء الغاية - كما صرح بذلك ابن هشام في المغنى 2 - ولكن هيهنا قرينة التعليل موجودة وهو قوله عليه السلام " ويصير المبيع للمشتري " وفي الحقيقة جملة " حتى تنقضي الشرط " توطئة لذكر العلة التي هي في الحقيقة قوله عليه السلام " ويصير المبيع للمشتري " المترتب على انقضاء الخيار ولما كان
(1) " منية الطالب " ج 2، ص 177. (2) " مغني اللبيب " ج 2، ص 166.
[ 139 ]
صيرورة المبيع ملكا للمشترى ليس متوقفا على انقضاء الخيار أي خيار كان فلا بد وأن يحمل على الملك المستقر الذي لا يمكنه أن يسلبه عن نفسه بان يفسخ المعاملة. ومعلوم أن مثل هذا الملك موقوف ومترتب على انقضاء الخيار، ففي الواقع علل عليه السلام سقوط الضمان عن البائع بصيرورة المبيع ملكا مستقرا للمشتري. والشيخ الاعظم الانصاري قدس سره أيضا يشير إلى هذا المعنى بأن يقول - بعد قوله: بناء على أن المناط انقضاء الشرط الذي تقدم أنه يطلق على خيار المجلس - بل ظاهره أن المناط في رفع ضمان البائع صيرورة المبيع للمشتري واختصاصه به بحيث لا يقدر
على سلبه عن نفسه 1. ثم إنه قدس سره يستشهد بكلام السرائر بما يؤيد ما ذكرنا من أن العلة استقرار الملك لا انقضاء الشرط وانما ذكر هو توطئة لذكر العلة فافهم. ثم إن شيخنا الاستاذ قدس سره استشكل باشكالين آخرين على تعميم هذه القاعدة بالنسبة إلى جميع الخيارات بواسطة هذا التعليل: أولا: بأن هذه الجملة على فرض كونها علة لهذا الحكم تقيد التعميم لو كان علة للمجعول لا للجعل والتشريع. وثانيا: أن ظاهر قوله عليه السلام " وان كان الشرط أياما معدودة " أن يكون الشرط محدودا مضبوطا ففي هذه الصور يأتي هذا الحكم. ومعلوم أن هذا المعنى لا ينطبق على غير خياري الحيوان والشرط، إذ فيهما فقط الشرط يكون محدودا مضبوطا، فخيار الحيوان محدود بثلاثة أيام من طرف الشارع، وخيار الشرط محدود من طرف المشروط له والمشروط عليه، وما عداهما حتى خيار المجلس ليس محدودا لان أمد المجلس غير معين، والمجالس تختلف قصرا وطولا فلا تشمل القاعدة خيار المجلس
(1) " المكاسب " ص 300.
[ 140 ]
فضلا عن سائر الخيارات. ولكنك خبير بما فيهما: أما في إشكاله الاول بأنه لا شك في أن عدم صيرورة المبيع ملكا مستقرا للمشتري وامكان سلبه عن نفسه علة للمجعول أي كون الضمان على البائع وإن كان تلف عند المشتري، كما أن صيرورته كذلك علة لسقوط الضمان ورفعه عن البائع، ولا ينبغي التوهم لكونها علة لجعل الشارع هذا الحكم، بل لم نفهم معنى محصلا لكونها علة للجعل.
وأما في إشكاله الثاني: فان قوله عليه السلام " وان كان الشرط أياما معدودة " في مقام بيان ثبوت هذا الحكم في خيار الشرط ولا شك في أن خيار الشرط محدود مضبوط ولا ينافي كونه بصدد بيان خيار الشرط مع تسرية هذا الحكم إلى سائر الخيارات بواسطة عموم التعليل والمناط. ثم إن شيخنا الاعظم الانصاري قدس سره استشكل على هذا الوجه الذي استظهره من ذيل صحيحة ابن سنان على التعميم لجميع الخيارت بقوله: وفي الاعتماد على هذا الاستظهار تأمل في مقابلة القواعد مع أنه يمكن منع دلالة هذا المناط المستنبط عليه لان ظاهر الصحيحة الاختصاص بما إذا كان التزلزل وعدم كون المبيع لازما على المشتري ثابتا من أول الامر كما يظهر من لفظة " حتى " الظاهرة في الابتداء 2. ومراده من هذا الكلام: أولا أن هذا الاستظهار من جهة مقابلته للقواعد الاولية المستفادة من أدلة الاحكام - مع أنه مخالف لها - لا يمكن الركون إليه إذ مقتضي القواعد الاولية أن مال شخص لو تلف في يده وعند نفسه لا يكون ضمانه على غيره ففى ما نحن فيه مثلا إذا
تلف المبيع عند المشتري وبعد قبضه إياه لا وجه لان يكون ضمانه على البائع ولو كان للمشتري الخيار فقط دون البائع فهذا الحكم - أي كون الضمان على البائع - مخالف للقواعد المستفادة من الادلة الاولية والخروج عن تلك القواعد المسلمة الثابتة بالادلة القطعية بمثل هذا الاستظهار مشكل. وفيه: إن صح هذا الظهور فهذا حكم تعبدي مخالف للقواعد ودليله هذا الظهور كما أنه في خياري الحيوان والشرط ثبت هذا الحكم مع أنه هناك أيضا مخالف
للقواعد. اللهم إلا أن ينكر مثل هذا الظهور فحينئذ لا يثبت هذا الحكم وان لم يكن مخالفا للقواعد لان ثبوت كل حكم يحتاج إلى دليل. وثانيا: مراده من قوله " إن ظاهر الصحيحة هو اختصاص هذا الحكم بما لو كان التزلزل من أول الامر " أن خياري الحيوان والشرط يوجب تزلزل المعاملة من أول وجوده إلى انقضاء الخيار وسائر الخيارات ليس كذلك ولفظة " حتى " الغائية ظاهرة في استمرار ما قبلها من أول وجوده إلى حصول تلك الغاية مثلا سرت حتى دخلت البصرة أي سيري كان مستمرا من أول وجوده إلى حصول الغاية أي دخول البصرة. وفيما نحن فيه هذا المعنى متحقق بالنسبة إلى خياري الحيوان والشرط أي تزلزل ملكية المشتري للمبيع متحقق من أول وجوده إلى انقضاء الخيار في هذين الخيارين دون سائر الخيارات فلا عموم في البين كي يشمل سائر الخيارات أي خيار الغبن والعيب والرؤية وغيرها. وفيه: أن قوله عليه السلام في صحيحة ابن سنان " وعلى البائع حتى ينقضي الشرط ثلاثة أيام ويصير المبيع للمشتري " مفاده كما هو الظاهر منه أن ضمان المبيع على البائع من أول وجود المعاملة إلى انقضاء الشرط ثلاثة أيام أي خيار الحيوان وصيرورته المبيع للمشتري بحيث لا يمكن له أن يسلبه عن نفسه بالفسخ فيكون كناية عن اللزوم.
[ 142 ]
وهذا المعنى - أي كون المبيع مثلا في ضمان البائع من أول وجود المعاملة مستمرا إلى انقضاء الخيار وحصول اللزوم - لا مانع من الالتزام به في جميع الخيارات فالالتزام بهذا الحكم في جميع الخيارات لا يكون مخالفا لما هو ظاهر كلمة " حتى " وان قلنا بظهورها في استمرار وجود ما قبلها أي الحكم المغيى بها إلى حصول تلك الغاية. وبعبارة أخرى: في غير هذين الخيارين - أي خياري الحيوان والشرط - كخيار
الغبن والعيب أيضا الخيار وعدم استقرار الملك بحيث يمكن أن يسلب عن نفسه من أول وقوع العقد ووجوده موجود غاية الامر لا يعلم بوجوده وبعد الاطلاع على أن المبيع معيب أو لا يساوي الثمن الذي اشتراه بذلك الثمن أي بعد ظهور العيب والغبن يعلم بوجود الخيار فظهور العيب أو الغبن كاشف عن وجود الخيار من أول الامر لا أنه سبب لحدوث الخيار فالتزلزل وعدم كون الملكية مستقرا حاصل من أول وجود العقد ومستمر إلى انقضاء زمان الخيار. نعم لو كان هناك قائل بأن ظهور العيب أو العلم بالغبن الفاحش موجب لحدوث الخيار من حين العلم والظهور فلابد له من القول بعدم التعميم بناء على أن يكون هذا التعليل علة للتعميم وشمول القاعدة لسائر الخيارات. وحاصل الكلام: أنه بناء على أن ظهور الغبن والعيب كاشف عقلي من ثبوت الخيار لا أنه شرط شرعي لحدوثه فلا يبقى مجال لاشكال شيخنا الاعظم قدس سره وتأمله في استظهاره. نعم هناك أمر آخر يوجب التأمل في استفادة العموم من التعليل وهو أن جعل الضمان على البائع في خيار الحيوان مع قبض المشتري للمبيع وتلفه في يده من جهة مراعاة من انتقل إليه الحيوان وانه قبل مضي ثلاثة أيام يمكن أن يخفى عليه بعض نقائص المبيع فجعل القبض كالعدم وجعل مناط سقوط الضمان انقضاء الشرط وحصول الملكية المستقرة بحيث لا يمكن أن يسلبه عن نفسه بالفسخ. ومع هذا
[ 143 ]
الاحتمال كيف يمكن أن يقال بتعميم المناط. وأما خيار الشرط فشريك مع خيار الحيوان في هذه الجهة والنكتة ولذلك أطلق على كليهما الشرط في الاخبار غاية الامر أن الشرط في خيار الحيوان من قبل الشارع وفي خيار الشرط من قبل المتعاملين وهذا ليس بفارق فيما هو المهم في المقام
من أن المناط لجعل الضمان في عهدة من ليس له الخيار حتى بعد قبض من له الخيار من جهة مراعاة من انتقل إليه الحيوان أو المشروط له في خيار الشرط فيكون التعليل مختصا بهذين الخيارين ولا يسري إلى خيار المجلس فضلا عن سائر الخيارات. وأما ما ربما يقال - في وجه عدم التعميم واختصاص هذه القاعدة بهذين الخيارين دون غيرهما من أن قولهم: " التلف في زمن الخيار " يدل على أن الخيار المذكور في هذه القاعدة لا بد وأن يكون من الخيارات الزمانية أي ما كان لها زمان محدود من طرف الشارع كخيار الحيوان المحدود بثلاثة أيام أو من طرف المتعاملين كخيار الشرط وليس في سائر الخيارات تحديد بحسب الزمان لا من طرف الشارع ولا من طرف غيره فهذه القاعدة بقرينة كلمة " زمن الخيار " لا تشمل الخيارات غير الزمانية - فعجيب. وذلك من جهة أن كل حادث زماني لابد وان يكون لوجوده زمان يمتد بامتداد وجوده وكما أن لكل جسم مكان يحيط به كذلك لكل حادث في سلسلة الزمان وفي وعائه زمان يحيط به وهذا الزمان هو عمر ذلك الشئ فكل شئ كان امتداد وجوده في وعاء الزمان أكثر يكون عمره أطول وكل خيار سواء كان أحد هذين الخيارين أو غيرهما حيث أنه حادث زماني فله زمان يحيط به من أول وجود هذا الحق إلى آخره وانتهائه فقولهم: " التلف في زمن الخيار " أي ذلك الزمان المحيط بالخيار لا الخيارات الزمانية كما توهم.
[ 144 ]
فتلخص من مجموع ما ذكرنا: أن مدرك هذه القاعدة هو الاخبار الواردة في خياري الحيوان والشرط والظاهر اختصاصها بذينك الخيارين وعدم شمولها لسائر الخيارات حتى خيار المجلس فافهم وذلك لعدم تنقيح المناط الذي ذكره شيخنا
الاعظم قدس سره بطور يوجب الاطمئنان حتى تحكم بالتعميم. وأما شمولها لخيار المجلس - باعتبار إطلاق الشرط عليه في الاخبار مع اختصاص مورد الروايات الواردة في هذا الباب بخياري الحيوان والشرط - فلا يخلو من نظر وتأمل. وأما شمولها للثمن والمثمن بالنسبة إلى التالف وللبائع والمشتري بالنسبة إلى من لا خيار له فنقول: إن صور المسألة أربع لان التلف المفروض أنه بعد القبض - وإلا يكون من مصاديق قاعدة تلف المبيع قبل القبض ويكون خارجا عن دائرة انطباق هذه القاعدة - إما يكون في يد البائع أو المشتري وفي كل واحدة من الصورتين إما أن يكون الخيار للذي وقع التلف في يده فقط أو يكون للآخر الذي لم يقع التلف في يده. الصورة الاولى: أن يكون التلف في يد البائع فقهرا يكون التالف هو الثمن لان المفروض أنه بعد القبض ويكون الخيار للآخر أي المشتري فلا ضمان لاحد لان ملك البائع تلف في يده ويكون كسائر أمواله ولا وجه لان يكون تلفه موجبا لضمان شخص آخر إلا بأحد أسباب الضمان المعروفة وليس شئ منها في البين. الصورة الثانية: أن يكون التلف أيضا في يد البائع ولكن كان الخيار البائع فقط. وهذه هي الصورة التي يكون الضمان على المشتري إن قلنا بتعميم القاعدة بالنسبة إلى البائع والمشتري لان الضمان يكون على من لا خيار له وهو هيهنا المشتري كما هو المفروض. الصورة الثالثة: أن يكون التلف في يد المشتري وكان الخيار للبائع فقط ولا شك
[ 145 ]
في أن الضمان لا يكون على أحد أصلا وذلك لان مال المشتري تلف في يده ولا وجه لان يكون في ضمان شخص آخر إلا بأحد أسباب الضمان من إتلاف ذلك الآخر أو
كون يده يد ضمان أو غير ذلك من أسباب الضمان والمفروض أنه ليس شئ آخر في البين. الصورة الرابعة: أن يكون التلف في يد المشتري والخيار له فقط وهذه الصورة هي التي مشمولة لهذه القاعدة نصا وفتوى إجماعا ويكون من المسلمات أن ضمان التالف على البائع الذي ليس له الخيار فيما إذا كان الخيار الذي للمشتري خيار الحيوان أو خيار الشرط وأما فيما عداهما من الخيارات فيأتي ذلك الكلام الطويل الذي تقدم. بقى الكلام في أن الضمان المذكور في هذه القاعدة - وانه من مال من لا خيار له - هل هو ضمان المسمى الذى هو أحد العوضين في المعاملة أو هو عبارة عن الضمان الواقعي أي المثل والقيمة كل واحد منهما في محله ومورده؟ فنقول مبنى المسألة على أنه جعل الشارع قبض ذي الخيار في المفروض كالعدم فالضمان الثابت قبل القبض باق لعدم ما يوجب رفعه فإذا كان الامر كذلك فلابد من القول بأن الضمان ضمان المسمى لعدم الشك في كون الضمان السابق على القبض ضمان المسمى. وأما إن قلنا بأن الضمان إذا تلف في يد ذي الخيار بعد القبض حكم تعبدي لا من جهة أن الشارع جعل القبض كلا قبض بل بقبض المشتري مثلا خرج المبيع عن عهدة البائع وحصل القبض والاقباض الذي كان من مقتضيات العقد. فقوله عليه السلام فيما إذا تلف المبيع في يد المشتري بعد القبض في زمن خيار الحيوان أو الشرط " فهو من مال البائع " حكم تعبدي لا ربط له بضمان البائع قبل القبض الذى كان عبارة عن اشتغال ذمته بتسليم المبيع المعين المسمى إلى المشتري لان المفروض أن ذلك حصل وتم ولا معنى للزوم حصوله ثانيا فلا معنى لبقائه بعد القبض
[ 146 ]
والتسليم فحينئذ لا طريق لمعرفة نوع الضمان إلا الاستظهار من هذه الجملة أي
قوله عليه السلام: " فهو من مال بايعه ". فنقول: يمكن أن يكون المراد من هذه الجملة أن خسارته وغرامته على البائع سواء فسخ المعاملة أم لم يفسخ بناء على أن تلف المبيع لا يكون مانعا عن جواز فسخ المشتري في زمان خياره. نعم لو فسخ المشتري يسترد عين الثمن إن كان شخصيا و كان باقيا وان كان تالف فمثله أو قيمته كل واحد منهما في مورده وان كان كليا فيأخذ أحد مصاديقه. وان لم يفسخ فيكون البائع ضامنا للمبيع التالف في يد المشتري بالضمان الواقعي أي المثل أو القيمة كل واحد في مورده لانه معنى كون غرامة التالف وخسارته على البائع هو أن ضمانه الواقعي عليه. ويمكن أن يكون المراد منها أن التلف يقع من مال بائعه بمعنى أنه ينتقل إلى البائع آنا ما فيتلف ولا شك في أنه لا ينتقل إلى البائع مجانا وبلا عوض فلابد وأن يكون انتقاله إلى البائع إما ببدله الواقعي من المثل والقيمة كل في محله أو يكون بانفساخ المعاملة آنا ما قبل التلف حتى يرجع كل واحد من العوضين إلى ملك مالكه الاول أي إلى مالكه قبل وقوع المعاوضة كما قلنا في مسألة تلف قبل القبض. ونتيجة الانفساخ القهري هو نتيجة الفسخ الاختياري - كما بيناه - فيرجع عين الثمن إلى المشتري لو كان باقيا وإلا فعلى التفصيل الذى تقدم في صورة الفسخ. هذه الاحتمالات كلها في مقام الثبوت. وأما في مقام الاثبات: فالظاهر هو انفساخ المعاملة آنا ما قبل التلف وذلك من جهة أن قوله قوله عليه السلام: " فهو من مال بائعه " ظاهر في أن التلف يقع في مال البائع أي التالف يكون من أمواله لا أن خسارة التالف وغرامته عليه وهذا أي كون التلف واقعا على ماله لا يمكن إلا بالانفساخ آنا ما قبل التلف حتى يرجع التالف إلى ملك البائع فيكون التلف واقعا في ملكه.
[ 147 ]
فالصواب هو أن الضمان في هذه القاعدة هو ضمان المسمى لا الضمان الواقعي أي المثل والقيمة. وبعبارة أخرى: التلف بعد القبض - إذا كان التلف في يد من له الخيار فقط دون صاحبه - في حكم التلف قبل القبض أي يكون ذلك الضمان الذي قبل القبض موجود وفي عهدة البائع باقيا بعد القبض أيضا ومعلوم أنه كان ضمان المسمى وبهذا صرح جمع من المحققين كالمحقق والشهيد الثانيين 1، ويظهر أيضا من الشهيد قدس سره في الدروس 2 حيث قال: وبالقبض ينتقل الضمان إلى القابض ما لم يكن له خيار. من جهة أن مفهوم هذا الكلام هو أنه لو كان للقابض الذي هو المشتري في المفروض خيار فلا ينتقل الضمان إليه بل يبقى على حاله. وخلاصة الكلام: أن لفظ " الضمان " وان كان ظاهرا في الضمان الواقعي أي كون الشئ بوجوده الاعتباري في العهدة وارتفاعه عن العهدة ورفع اشتغال الذمة بأداء ذلك الشئ وحيث أن الشئ بعد تلفه لا يمكن أداؤه بخصوصيته الشخصية فلابد وأن يطبق ما في الذمة على ما هو أقرب إليه من غيره وهو مثله إن كان له المثل أي كان من المثليات وقيمته وماليته إن كان من القيميات وذلك من جهة أن نظر العقلاء في مقام تفريغ الذمة في الماليات والغرامات بعد تعذر الخصوصيات الشخصية اعتبار وجود الجهات النوعية والمماثلات وبعد تعذر هذه الجهات أيضا لا يرون الخروج عن العهدة إلا بأداء القيمة. وبعبارة أخرى: لا فرق فيما هو المراد من الضمان بين باب التلف والاتلاف فإذا حكم الشارع بالضمان في مورد من موارد التلف - كما فيما نحن فيه - يكون المراد منه هو الضمان في باب الاتلاف.
(1) " جامع المقاصد " ج 4، ص 308، " مسالك الافهام " ج 1، ص 181. (2) " الدروس " ج 3، ص 210.
[ 148 ]
ولكن في المقام لم يقل الشارع إن من ليس له الخيار من المتعاملين ضامن لما تلف في يد ذي الخيار وأيضا لم يقل إن التلف في يد ذي الخيار يكون بحكم إتلاف من ليس له الخيار بل قال: التلف في زمن الخيار من مال من ليس له الخيار أو من مال بائعه. وأنت خبير بأن هذه العبارات غير التعبير بأنه ضامن ولا تفيد ذلك المعنى الذي يستفاد من لفظة " الضمان ". نعم أورد شيخنا الاستاذ قدس سره هاهنا إشكالين على كون الضمان في هذه القاعدة هو ضمان المسمى: الاول هو أن في صحيحة ابن سنان حكم بضمان البائع لو تلف المبيع في يد المشترى الذى له الخيار فقط دون البائع سواء كان التالف نفس المبيع أو صفة من أوصافها حيث قال الراوى: فيموت العبد أو الدابة أو يحدث فيه حدث على من يكون ضمان ذلك؟ فقال عليه السلام: " على البايع حتى ينقضي الشرط ثلاثة أيام ". ولا شك في أن الوصف لا يقابل بشئ من المسمى وتمام الثمن بإزاء نفس العين. نعم الاوصاف ربما توجب زيادة قيمة العين المتصفة بها وإلا فلا يقع شئ من الثمن بإزاء الوصف ولذلك تخلف الوصف لا يوجب تبعض الصفقة بل يوجب الخيار بقبول المعاملة بنفس الثمن أو يفسخ ويسترد الثمن تماما لا أنه يقبل ولا يرد المعاملة ويسترد مقدارا من الثمن بإزاء فقدان الوصف. فإذا كان الامر كذلك فلا يمكن أن يكون الضمان الذى حكم الامام عليه السلام في مورد حدوث الحدث بالعبد أو الدابة ضمان المسمى لانه بالنسبة إلى الوصف ليس مسمى في البين حتى يكون ضمانه ضمان المسمى فلابد وأن يحمل قوله عليه السلام: " فهو من مال بائعه " على الضمان الواقعي حتى يشمل ضمان العين والوصف جميعا وإلا يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.
والثاني: هو أن ضمان المسمى ارتفع بالقبض لان ضمان المسمى عبارة عن اشتغال
[ 149 ]
ذمته بالمثمن إن كان بائعا وبالثمن إن كان مشتريا والمفروض في المقام أن البائع سلم المثمن إلى المشتري وقبض المشتري فلا يبقى مورد ومجال لاشتغال ذمته ثانيا باعطاء المثمن بل هو من تحصيل الحاصل المحال فلو تجدد ضمان بواسطة كون التلف في زمن الخيار لابد وأن يكون هو الضمان الواقعي أي المثل أو القيمة لانه الظاهر من لفظ " الضمان " 1. والجواب: أما عن الاشكال الاول: فأولا: أن المراد من حدوث الحدث في المبيع ليس هو فوات الوصف كما زعمه المستشكل بل المراد به أيضا التلف والموت فهو من قبيل التفنن في العبارة أو المراد به موت خاص كالفجاة مثلا فيكون من قبيل ذكر الخاص بعد العام وكم له من نظير وقد ورد في الاخبار بهذا المعنى. وثانيا: فبان الضمان الواقعي أيضا لا يمكن أن يكون جامعا لان الانسان لا يضمن بالمثل أو القيمة لتلف ماله في يده فلابد من حمل كلامه عليه السلام على معنى يلائم مع الانفساخ وغيره وهو أن يقال: إن المراد من قوله عليه السلام " فهو من مال بائعه " هو أنه خسارته على البائع ويذهب من كيسه سواء أكانت الخسارة التى عليه من جهة انفساخ المعاملة ورجوع الثمن إلى المشتري من دون مقابل يرجع إلى البائع لان المفروض أن مقابل الثمن تلف في يد المشتري بدون أن يكون عليه شئ أو كانت من جهة فسخ المشترى ورجوع الثمن بتمامه إليه ورجوع العين الناقصة إلى البائع ففقدان الوصف خسارة واردة على البائع من غير تدارك. وأما عن الاشكال الثاني: فبأن شخص ذلك الضمان وان ارتفع بالاعطاء والاقباض وتسليم المثمن إلى المشتري ولكن لا مانع من إتيان الدليل على حدوث فرد آخر من ضمان المسمى بواسطة التلف عند ذى الخيار تعبدا كما هو كذلك وجاء الدليل أي
(1) " منية الطالب " ج 2، ص 180.
[ 150 ]
قوله عليه السلام: " فهو من مال بائعه ". ثم إنه هل يجري استصحاب بقاء الكلي الجامع بين الفردين الذين أحدهما ضمان المسمى قبل القبض وثانيهما هو الفرد الآخر الذى بعد القبض إذا شككنا في بقاء الضمان بعد القبض أي بقاء الجامع بين الفردين وإلا فالفرد منه الذي يقينا كان موجودا ارتفع بالقبض يقينا ولكن حيث أنه من المحتمل حدوث فرد آخر منه أي من ضمان المسمى بعد القبض في نفس زمان ارتفاع ذلك الفرد بواسطة الاقباض والتسليم فيكون الكلي الموجود يقينا في ضمن الفرد الزائل قطعا موجودا بقاء احتمالا في ضمن فرد آخر محتمل الحدوث؟ فيه إشكال فانه من القسم الاول من الاقسام التي للقسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي الذى بنينا تبعا لاكثر المحققين على عدم جريانه. اللهم إلا أن يقال: إنه ليس هيهنا وجودين من ضمان المسمى وان يكون انعدم أحدهما وحدث وجود آخر بل هناك وجود واحد من ضمان المسمى ممتد من أول المعاملة إلى ما بعد تلف المبيع في يد المشتري في زمان خياره الخاص به حتى يخرج عن عهدتة بارجاع الثمن إلى المشتري بدون مقابل. هذا في مفروض المسألة والمقام غاية الامر بسببين: حدوث هذا الضمان بسبب وبقاؤه بسبب آخر فحدوثه بسبب التزام المعاملي إلى زمان القبض وبعد حصول القبض ووفائه بالتزامه لا تأثير للالتزام المعاملي لانه كما ذكرنا يكون من قبيل تحصيل الحاصل ولكن بقاؤه بعد القبض يكون بالتعبد من قبل الشارع والدليل على هذا التعبد هو الاستصحاب. لا يقال: بعد زوال العلة ينعدم المعلول فإذا جائت علة أخرى لذلك الشئ فلابد
وأن يكون معلوله موجودا بوجود آخر فيعود الاشكال. وذلك من جهة أنه يمكن أن يكون كل واحد من السببين في حد نفسه لو كان
[ 151 ]
وحده كاف في تأثيره في وجود المعلول غاية الامر عند اجتماعهما يتداخلان فإذا انعدم أحدهما يؤثر الآخر مستقلا كالخيمة القائمة بعمودين ولكن كل واحد منهما لو انفرد كاف في قيام الخيمة به فإذا انعدم أحدهما يكون قيام الخيمة بقاء بذلك العمود الباقي كما أنه هو كذلك بالوجدان. فلو فرضنا قيام الخيمة حدوثا بأحد العمودين ثم في زمان ارتفاع ذلك العمود قام عمود آخر مقامه فالحدوث مستند إلى علة وبقاء الخيمة إلى علة أخرى، لا أن تلك الخيمة بواسطة ارتفاع العمود الاول تنعدم وتوجد خيمة أخرى، وفي الاعتباريات تصويره وامكان وقوعه أسهل وأوضح، كما أن في باب الخيارات يمكن أن يكون حدوث الخيار بموجب وبقاؤه بموجب آخر. " والحاصل " أنه لا مانع من كون حدوث شئ بعلة وبقائه بعلة أخرى ولا يخرج ذلك الشئ بواسطة تعدد العلة من حيث علة الحدوث والبقاء عن الوحدة. ثم إنه على تقدير جريان هذا الاستصحاب هل يعارضه استصحاب عدم الانفساخ - أي الاصل العدمي مقابل هذا الاصل الوجودى - أم لا فانهما إذا تعارضا يتساقطان فلا يبقى استصحاب حتى يقال ببقاء الضمان حتى بعد القبض؟ الظاهر عدم تعارض هذين الاصلين أي الاصل الوجودي والعدمي وذلك من جهة حكومة الاصل الوجودي هيهنا على الاصل العدمي لان الشك في الانفساخ مسبب شرعا عن الشك في بقاء الضمان وذلك من جهة أن بقاء ضمان المسمى تعبدا من إثارة الشرعي انفساخ المعاملة حتى يرجع الثمن إلى المشتري الذي له الخيار وحده دون البائع ومعلوم أن الاستصحاب في جانب السبب يرفع موضوع
استصحاب المسبب تعبدا وفي عالم التشريع. تذييل: وهو أن هذه القاعدة هل تختص بالمبيع والثمن الشخصيين أو تشمل الكليين منهما؟
[ 152 ]
مثلا لو باع عبدا أو حيوانا ورفع الغرر بذكر الاوصاف بكذا درهم أو دينار أيضا كليين لا الدرهم أو الدينار الشخصيين فالبائع سلم إلى المشتري مصداقا من مصاديق ذلك الكلي وأقبضه إياه فتلف ذلك المصداق في يد المشتري في زمان خياره المخصوص به. فهل تشمل هذه القاعدة مثل هذه المورد فتجب على البائع رد مصداق الثمن الكلي إن كان قبضه أو لا تشمل فلا تنفسخ المعاملة بل مال المشتري تلف في يده ولا ضمان على أحد لا على المشترى ولا على غيره لان مال شخص تلف عند نفسه فلا وجه للضمان لا المسمى ولا الواقعي؟ فنقول: الظاهر عدم شمولها للثمن أو المبيع الكليين. أما أولا: فمن جهة ظهور قوله عليه السلام في صحيحة ابن سنان " فهلك في يد المشتري " في أن يكون التالف في يد المشتري هو نفس المبيع لا الفرد المنطبق عليه المبيع الكلي و قد عرفت أن العمدة في دليل هذه القاعدة هي الروايات وهى لا تدل على أزيد مما كان المبيع شخصيا ففي المبيع الكلي يحتاج إتيان هذه القاعدة إلى دليل وهو مفقود في المقام. وأما ثانيا: فمن جهة أن المبيع إذا كان شخصيا فبعد قبض المشتري له وتلفه في يده فان حكم الشارع بأنه - أي التلف من مال البائع - معناه أن التلف وقع في ملك البائع وماله وهذا لا يمكن إلا بانفساخ العقد آنا ما قبل التلف حتى يكون التلف في ملك البائع وإلا فمال المشتري تلف في يده ولا معنى لان يكون شخص آخر ضامنا له.
وإما إذا كان المبيع كليا واعطى البائع مصداقا من ذلك الكلي للمشتري وتلف ذلك الفرد المنطبق عليه الكلي في يده فلا يلزم منه انفساخ العقد إن حكم الشارع بان التلف وقع في ملك البائع من جهة أن ذلك الفرد ليس هو المبيع حتى يكون العقد برجوعه إلى البائع منفسخا بل العقد باق ويعطي فردا آخر للمشتري مع أن ظاهر
[ 153 ]
القاعدة في موارد انطباقها هو الانفساخ. وأما القول بأن ذلك الفرد المنطبق عليه الكلي بعد انطباقه عليه يكون بالحمل الشائع هو المبيع - فرجوعه إلى البائع معناه الانفساخ والانحلال - فعجيب لان المدار في الانفساخ عدم إمكان تسليم البائع للمبيع إلى المشتري بعد تلف ما هو المبيع في يد المشتري والمفروض ليس كذلك. الجهة الثالثة في موارد تطبيق هذه القاعدة فنقول: القدر المسلم منها هو فيما إذا تلف المبيع في يد المشتري بعد قبضه إياه في خيار الحيوان وخيار الشرط واما فيما عداهما أما خيار المجلس فيظهر من الشيخ الاعظم الانصاري قدس سره الميل إلى شموله له وان قال: " على إشكال " 1. وأما سائر الخيارات المتصلة بالعقد فجريانها فيها في خصوص المثمن لا يخلو من وجه وهو عبارة عن عموم التعليل في صحيحة ابن سنان المستفاد من قوله عليه السلام: " حتى ينقضي الشرط ويصير المبيع للمشتري " وان تأمل الشيخ الاعظم في هذه الاستفادة 2، وعلى أي حال تقدم تفصيل الكلام فيه في الجهة الثانية. وأما الخيارات المنفصلة عن العقد كخيار الشرط إذا كان الشرط أي الخيار المجعول منفصلا عن العقد فقد تقدم الاشكال في جريان القاعدة لظهور كلمة " حتى ينقضي الشرط " في كونه من ابتداء المعاملة إلى انقضائه - أي الشرط - على كلام
واشكال منا تقدم في الجهة الثانية وأما شمولها للثمن فقد تقدم أنه تابع لان يكون هذا الحكم الكلي - أي التلف في
(1) " المكاسب " ص 301. (2) المصدر.
[ 154 ]
زمن الخيار من مال من لا خيار له - على طبق القواعد الاولية أم لا بل حكم تعبدي مستنده الاجماع والاخبار. فبناء على الاول تشمل وبناء على الثاني فقوله عليه السلام: " فهو من مال بائعه " أي تلف المثمن في أيام خيار المشتري في يده من مال البائع فاسراء هذا الحكم إلى الثمن وتلفه في يد البائع في أيام خياره المختص به من مال المشتري أشبه بالقياس بل هو نفسه وقد تقدم كل ذلك فلا نطول المقام. وأما جريانها في المبيع الكلي فيما إذا طبق البائع على فرد ومصداق واعطاه وسلمه إلى المشتري فقد تقدم الكلام والاشكال في شمولها له فلا نعيد. والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
[ 155 ]
20 - قاعدة حرمة أخذ الاجرة على الواجبات
[ 157 ]
قاعدة حرمة أخذ الاجرة على الواجبات * ومن القواعد الفقهية المعروفة بين الفقهاء أنه " يحرم أخذ الاجرة على كل ما هو واجب عليه ". فنقول: اختلف الفقهاء في أنه هل يجوز أخذ الاجرة على الواجبات أم لا؟
فالمشهور ذهبوا إلى عدم الجواز مطلقا، بل ادعى جماعة الاجماع عليه كما في الرياض 1، وجامع المقاصد 2 في بعض فروع المسألة، وذهب بعضهم إلى الجواز مطلقا، وبعضهم فصل بين التعبدي والتوصلي فقال بالجواز في خصوص الثاني، وفصل آخرون بين التعييني والتخييري، وجماعة أخرى بين الكفائي والعيني وبعضهم فصل بين الكفائي والتوصلي فقال بالجواز ومنع في سائر الاقسام إلى سائر التفاصيل التي يجدها المتتبع في كلام القوم لا يهمنا ذكرها وإنما المهم بيان ما هو الحق في المسألة و يعلم منه قهرا حال سائر الاقوال. فنقول: إن الحق في المقام هو عدم جواز أخذ الاجرة بل مطلق العوض - بأي عنوان كان، سواء أكان من باب الاجارة أو من باب سائر العقود المعاوضية - على مطلق ما هو واجب على الانسان فعله، سواء أكان واجبا عينيا أو كفائيا أو تعيينيا أو تخييريا نفسيا أو غيريا تعبديا أو توصليا، إلا على احتمال في التخيير الشرعي.
*. " بلغة الفقيه " ج 2، ص 3 - 44، " رسالة قى حرمة أخذ الاجرة على الواجبات " (اصفهاني) مع " الحاشية على المكاسب، " أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة " ص 119، " قواعد فقهى " ص 149، " القواعد الفقهية " (فاضل اللنكراني) ص 510. (1) " رياض المسائل " ج 1، ص 505. (2) " جامع المقاصد " ج 4، ص 36.
[ 158 ]
نعم هناك شئ يجب التنبيه عليه وهو أن هذا الذي نقول من عدم جواز أخذ مطلق العوض على الواجبات فيما إذا كان الشئ واجبا بالمعنى الاسم المصدري وأما إذا كان واجبا بالمعنى المصدري فلا مانع من أخذ الاجرة عليه، وسيأتي تفصيل هذا الكلام وتحقيقه عند التكلم في الواجبات النظامية إن شاء الله تعالي. إذا عرفت ما ذكرنا فلابد في تحقيق المقام من تمهيد مقدمة، وهي أنه يشترط في
صحة عقد الاجارة - بل في سائر العقود المعاوضية التي تقع على الاعمال - أمور: الاول: أن لا يكون سفهيا، أي يكون في العمل منفعة محللة مقصودة للعقلاء تعود إلى المستأجر، وإلا يكون أكل المال بإزائه أكل للمال بالباطل، وهذا واضح جدا. الثاني: أن يكون العمل ممكن الحصول للمستأجر لان حقيقة الاجارة هي تمليك العمل للمستأجر بعوض مالي معلوم في إجارة الاعمال فإذا لم يكن هذا العمل قابلا لان يملكه المستأجر فتكون هذه المعاوضة باطلة لان حقيقة المعاوضة بين شيئين لا يتحقق إلا بعد إمكان أن يدخل كل واحد من العوضين في ملك الآخر، وهذا أمر زائد على الشرط الاول لانه من الممكن أن تعود منفعة العمل إلى شخص بدون دخول العمل في ملكه. الثالث: أن يكون العمل مقدورا للعامل تكوينا وتشريعا وفعلا وتركا. أما إشتراط القدرة التكوينية في العمل المستأجر عليه بالنسبة إلى العامل فمعلوم لانه لو كان عاجزا عن العمل - والمفروض أن الاجارة وقعت على عمله مباشرة - فلا يقدر على تسليم العمل الذي استؤجر عليه ومعلوم أن مثل هذه المعاملة لغو في نظر العقلاء ويكون من قبيل " وهب الامير ما لا يملكه ". وأما اشتراط القدرة التشريعية فلان الشارع لو سلب القدرة في عالم التشريع عن مثل هذا العمل فيرى العامل في عالم اعتباره التشريعي عاجزا فيرى المعاملة باطلة. فظهر أن صحة المعاملة في باب إجارة الاعمال متوقفة على أن يكون الاجير قادرا
[ 159 ]
على فعل العمل وتركه تكوينا وتشريعا. إن قلت: عرفنا لزوم القدرة على الفعل ولكن لماذا يلزم القدرة على الترك؟ قلنا: لان معنى مقدورية فعل من الافعال هو أن يكون الفعل والترك بارادته و تحت اختياره، وإلا لو كان الفعل ضروريا، كحركة الارتعاش في اليد مثلا لا يقال إن
هذا الفعل مقدور له. إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن الواجب بأقسامها فيما عدا الواجب التخييري الشرعي التوصلي - على احتمال سيأتي - لو كان الواجب هو العمل بالمعنى الاسم المصدري - أي يكون المطلوب منه العمل الصادر لاجهة إصدار العمل لان في العمل جهتين: إحداهما نفس الصادر والثانية جهة إصداره أي فاعلية العامل لهذا العمل. وربما يكون هذا هو المراد من قولهم: جهة انتساب الفعل إلى فاعل مأخوذ في معنى المصدر، بخلاف اسم المصدر - فلا يمكن أخذ الاجرة عليه، لان الفعل والعمل بواسطة الايجاب خرج عن تحت قدرته واختياره تشريعا لان الشارع في عالم تشريعه يرى العمل ضروري الوجود وانه ليس للمكلف تركه، فكما أن في الحركة الارتعاشية في عالم التكوين ليس له تركه وخارج عن تحت قدرته تكوينا كذلك في جميع الواجبات في باب الاعمال إذا كانت واجبة بالمعنى الاسم المصدري تخرج عن تحت قدرة المكلف تشريعا فليس بقادر على العمل تشريعا. وقد ذكرنا في المقدمة إناطة صحة الاجارة على أن يكون العمل الاجارة على أن يكون العمل مقدورا تكوينا و تشريعا، ولذا قلنا بعدم صحة الاجارة على الفعل المحرم. فالحاصل أن العمدة في عدم صحة أخذ الاجرة على الواجبات بحيث يكون وافيا بجميع أقسام الواجب - من التعبدي والتوصلي والعيني والكفائي والتعييني والتخييري والنفسي والغيري - هو هذا الوجه، وإلا سائر الوجوه التي ذكروها إما غير تام في حد نفسه أو أخص من المدعى.
[ 160 ]
ومن جملة الوجوه التي ذكروها في المقام هو الاجماع على عدم الصحة. ولكن أنت خبير أولا بأن الاجماع في أمثال هذه المسائل التي مدرك المجمعين و مستند المتفقين معلوم ليس من الاجماع المصطلح عند المتأخرين الذي بنينا على
حجيته، بل لابد من الرجوع إلى مداركهم والنظر فيها وانها هل صحيحة هي أم لا؟ وثانيا: كيف يمكن تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة التي اختلاف الاقوال فيها بهذه الكثرة. ومن جملتها منافاة أخذ الاجرة لقصد الاخلاص والقربة. وأجاب عن هذا صاحب الجواهر قدس سره بأن الاجارة توجب تأكد الاخلاص لان الوجوب يتضاعف بسبب الاجارة 1. وأورد عليه شيخنا الاعظم قدس سره في مكاسبه، بأن العمل الذي ليس فيه أجر دنيوى وكون الداعي على إتيانه فقط هو امتثال أمر الله تعالى، قطعا أخلص من العمل الذي فيه أجر دنيوي ويكون تمام الداعي أو بعضه على الاتيان ذلك الاجر، بل إذا كان تمام الداعي ذلك الاجر الدنيوي فلا إخلاص فيه أصلا، لا أن العمل المجرد أخلص فقط 2. فالانصاف أن أخذ الاجرة في العباديات ينافي الاخلاص وقصد القربة، وانكاره مكابرة. ولكن هذا الدليل كما ذكره الشيخ الاعظم قدس سره أخص من المدعى، من جهة عدم شموله للتوصليات، بل أعم من المدعي من وجه لجريانه في المندوبات التعبدية التي هي مندوبة ومستحبة على نفس الاجير 3. إن قلت: إن كان أخذ الاجرة ينافي الاخلاص فما تقول في العبادات المستأجرة
التي كانت واجبة على المنوب عنه، وذلك كاجارته للحج عن قبل الميت أو للصلاة عن قبله، فان جواز الاجارة مع وقوع العمل والعبادة صحيحا إجماعي فلو كان أخذ
الاجرة ينافي العبادية ووقوع العمل متقربا لما وقع صحيحا. قلت: أجيب عن هذا الاشكال بوجوه: منها: أن أخذ الاجرة من قبيل الداعي على الداعي أي يصير داعيا على أن يأتي بالعمل بداعي أمره كما أن في باب الامر بالمعروف رهبة وخوفا من الآمر بالمعروف لكن يكون خوفه داعيا على أن يأتي بالعمل بداعي أمره، وإلا لا يكاد بتحقق الامر بالمعروف إذا كان عبادة لانه لو أنكرنا مسألة الداعي على الداعي فلا يقدر على إتيان المعروف بعد ما كان الداعي على الاتيان هو الخوف عن الآمر بالمعروف. وهكذا مورد إتيان العمل العبادي رغبة في أمور دنيوية مترتبة على العبادة كسعة الرزق أو طول العمر أو الصحة والعافية وأمثال ذلك، فلو لم تكن هذه الامور دواع على إتيان العمل بداعي أمره وكان لا يعقل لما كان العمل صحيحا والعبادة واقعة إذا أتى بأحد هذه الدواعي الدنيوية، مع أن صحتها ووقوعها على الظاهر من المسلمات، بل ورد في بعض الروايات أنه أفعل كذا إذا أردت قضاء حاجتك الفلانية مثلا. وهذا الوجه لو تم لا اختصاص له بباب أخذ الاجرة في النيابيات بل يجرى أيضا في محل البحث أي في العبادات الواجبة على نفس الاجير. ولكن أنت خبير بأن حديث الداعي على الداعي ليس إلا صرف عبارة. لسنا نقول إن الداعي على الداعي لا يمكن، كيف وان الداعي على الداعي في الدواعي الطولية أمر ضروري، مثلا يحفر القناة لاجل الماء ويريد الماء لاجل الزرع ويزرع لاجل تحصيل الحنطة ويريد تحصيل الحنطة لاجل قوته وقوت عياله ففي الحقيقة العلة المحركة لحفر القناة ليس إلا قوت نفسه وعياله بحيث لو كان قوته وقوت عياله حاصلا لم يقدم على الحفر أصلا.
[ 162 ]
وبعبارة أخرى: في باب الدواعي الطولية الداعي الحقيقي والعلة الاصلية للعمل
هو الداعي الاول فانه هو المحرك للفاعل على فعله بحيث لو لم يكن لم يقدم على الفعل أصلا. فان اعترفت هيهنا أيضا بأنه لو لم يكن أجرة في البين لما كان يقدم على هذا العمل فقد اعترفت بعدم تحقق الاخلاص ولعمري هذا واضح جلي اللهم إلا أن يراد بقصد الاخلاص صرف الخطور بالبال، وما أظن أن يلتزم به هذا القائل. وأما حديث الامر بالمعروف فنقول: في الفرض الذى فرضت إذا كان الداعي على العمل ليس إلا الخوف فهذا العمل لا يقع عبادة البتة وانما الامر إليه وجب في الواجبات واستحب في المستحبات، إما لاجل أن نفس هذه الصورة محبوبة عند الله تعالى لحكم ومصالح، وإما من جهة أنه يتمرن ويتعود حتى يسهل عليه العمل فيأتي بداعي أمره بعد هذا، كما أنه المعروف من بعض أكابر العلماء في بعض البلاد حيث كان يجبرهم على صلاة الجماعة لاجل أن يتعودوا فيعملوا فيما بعد بداعي أمره. وأما إتيان العبادة بداعي الاثر الدنيوي المترتب عليه فقياسه على المقام فاسد لان الآثار الدنيوية المترتبة على امتثال الامر قصدها لا ينافي قصد الامر وقصد القربة. بيان ذلك: أن حقيقة قصد القربة واتيان العمل بقصد الاخلاص معناه إتيانه لمحبوبيته عند الله تعالى، وذلك يحصل بأحد الامور الثلاثة: إما أن يكون محركه على الاتيان هو نفس أمره تعالى ولا شك أن هذا المعنى محبوب له تعالى ومثل هذا العمل تعبد له. وإما أن يكون الداعي له على إيجاد العمل ما هو واقع في سلسلة علل الامر كالمصلحة الموجبة للامر، فلو أوجد العمل بداعي المصلحة التي هي موجبة للامر لكان متقربا لان مثل هذا المعني محبوب له تعالى ولذلك أمر به. وقد أجيب عما استشكل به البهائي قدس سره - في مبحث الضد من إنكاره الثمرة بأن العبادة باطلة على كل حال، سواء قلنا بالاقتضاء أم لا، لعدم الامر واحتياج العبادة
[ 163 ]
إلى الامر لان التقرب المعتبر في العبادة لا يحصل إلا بقصد الامر بأن قصد المصلحة كاف في تحقق العبادة. وإما أن يكون الداعي ما هو واقع في سلسلة معاليل الامر سواء أكان من الامور الاخروية، كتحصيل الدرجات المترتبة على العبادة أو الفرار عن الدركات المترتبة على عدمها، أو كان من الامور الدنيوية كسعة الرزق أو برئ مرض وأمثال ذلك. وأما إن كان المحرك لا يرجع إلى أحد هذه الثلاثة - بل كان أمرا دنيويا أجنبيا عن العبادة بالمرة - فلا يمكن تحقق الاخلاص والعبادة بمثل هذا الداعي فتصحيح أخذ الاجرة على الواجب العبادي على الاجير وعدم منافاته للاخلاص - بأنه من قبيل الداعي على الداعي - مما لا يمكن المساعدة عليه ويقول شيخنا الاستاذ قدس سره: عد هذا إشكالا أولى من عده جوابا عن الاشكال 1. ومنها: أن فعل النائب والاجير فعل تسبيبي للمستأجر وبعبارة أخرى: العمل الصادر من الاجير له نسبتان: نسبة إلى الاجير باعتبار أنه مباشر له ونسبة إلى المستأجر باعتبار أنه مسبب له، فيصح إسناد العمل إلى كل واحد منهما وأن يقال لكل واحد منهما: أنه فاعل لهذا العمل، فله فاعلان: فاعل تسبيبي وفاعل مباشري. وفي وقوع الفعل على صفة العبادية يحتاج إلى قصد القربة من الفاعل، وهيهنا حيث لا يمكن قصد التقرب من الفاعل المباشر فيقصد الفاعل الآخر أي الفاعل المسبب أعني المستأجر. وهذا الجواب أيضا لو صح لا اختصاص له بباب النيابة بل يجري فيما إذا كان العمل المستأجر عليه هو الواجب على نفس الاجير. وفيه: أن حديث وقوع العمل الصادر عن الاجير بصفة العبادية بواسطة صدور قصد القربة من المستأجر من أعجب الاعاجيب لان العمل الذي يصدر من الفاعل
(1) " منية الطالب " ج 1، ص 17.
[ 164 ]
المباشر بداع شهواني مثلا كيف يعقل أن يصير عباديا بواسطة قصد القربة من شخص آخر. وأما حديث بناء المسجد الذي يصدر من البنا بداعي أخذ الاجرة وهو الفاعل المباشر - ومع ذلك يصير قربيا بواسطة صدور قصد القربة من الفاعل التسبيي أي الذي يعطي الاجرة - فهو أجنبي عن المقام لان العبادة هناك عبارة عن نفس التسبيب وصرف الدراهم والدنانير لاجل بناء المسجد، فلو فعل هذه الاشياء بداع شهواني كالشهرة والسمعة أو الرياء وأمثالها لا يقع عمله عبادة لا عمل الاجير البناء فان عمله لا يقع عبادة إذا كان بداعي أخذ الاجرة سواء أكان معطى الاجرة قاصدا للقربة في بذله أم لا. وبعبارة أخرى: لو كان عمل الاجير في نفس المثل فرضا من العباديات وقد أتى به بقصد أخذ الاجرة لا يقع صحيحا سواء قصد باذل الاجرة القربة أم لا. وحيث أنه لا دليل على لزوم أن يكون البناء الصادر من البناء الذي يبني المسجد قربيا و عباديا بل يكفي قصد القربة من الواقف لان فعله - أي الوقف - عبادي لا فعل البناء فلا مانع للبناء الاجير أن يأخذ الاجرة لان فعله ليس بعبادة، ولا فرق بين أن يشتغل في بناء خان أو دكان أو مسجد من جهة عدم كون عمله عبادة في الجميع. ومنها: أن أخذ الاجرة في باب العبادات المستأجرة على إهداء الثواب إلى المنوب عنه. وهذا أعجب من سابقه وان كان صادرا عن بعض الاعاظم (قدس سرهم) لان المفروض صحة الاجارة على العبادة الواجبة على الغير بحيث يشتغل ذمة الاجير بما كان مشغولا ذمة المنوب عنه بعد الاجارة. ومسألة إهداء الثواب أجنبية عن هذا الباب بالمرة فهو في الحقيقة اعتراف بالاشكال وعدم إمكان دفعه.
والصواب في الجواب هو ما أفاده الشيخ الاعظم الانصاري قدس سره في الجواب عن هذا
[ 165 ]
الاشكال بابداء الفرق بين المقامين أي باب أخذ الاجرة على الواجب على غير الاجير كما في باب النيابات وبين ما كان العمل المستأجر عليه واجبا على نفس الاجير 1. بيان ذلك وتوضيحه: أن في باب الاجارة على ما هو الواجب على نفس الاجير، كما إذا آجر نفسه على أن يصلي صلاة الظهر لنفسه، فمتعلق الامر الاجاري ليس إلا ذات العمل غاية الامر مقيدا باتيانه بقصد القربة وكذلك متعلق الامر العبادي ليس إلا ذات العمل، إما وحده إذا قلنا بأن قصد الامر لا يمكن أن يؤخذ في متعلق الامر لا بأمر واحد ولا بأمرين بل يكون بحكم العقل، واما مقيدا بقصد الامر بناء على ما هو التحقيق عندنا من إمكان أخذ قصد الامر في متعلقه بأمرين وجعلين يكون أحدهما متمما للآخر. وعلى كل فمتعلق كلا الامرين - أي العبادي والاجاري - واحد بالنسبة إلى ذات العمل أعني نفس المقيد غاية الامر بناء على ما هو التحقيق يكون المتعلق واحدا في مجموع القيد والمقيد، وبناء على القول الآخر في خصوص نفس المقيد أي ذات العمل وكلا الامرين متوجهان إلى الاجير وهذا واضح. وأما في باب النيابات: فهما مختلفان من كلتا الجهتين: أما من جهة التوجة والمخاطب - فالامر العبادي متوجه إلى المنوب عنه والامر الاجاري مخاطبه الاجير ويكون متوجها إليه. وأما من جهة المتعلق فالامر العبادي المتوجه إلى المنوب عنه بالاعم من المباشرة والنيابة متعلق بذات العمل إما وحده وإما مقيدا بقصد الامر على القولين. والامر الاجاري متعلق بجعل نفسه نائبا عن الميت أو عن الحي الذي ناب عنه في إتيانه هذا العمل بقصد الامر المتوجه إلى المنوب عنه لا المتوجه إلى نفسه.
وهذا الفرق أوجب صحة الاجارة في باب النيابيات وعدم الصحة فيما هو واجب
(1) " المكاسب " ص 65.
[ 166 ]
على نفس الاجير. بيان ذلك: أن الاجير إذا أخذ الاجرة على إتيان ذات العمل بقصد الامر المتوجه إلى نفسه - كما هو المفروض في باب إجارة ما هو الواجب على نفس الاجير - فلا يمكن أن يكون صدور هذا العمل منه بداعي الامر المتوجه إليه لان المفروض أن المحرك له إلى العمل هو الامر الاجاري التوصلي. وبعبارة أخرى: يكون صدور العمل لاجل الوفاء بالاجارة واعطاء حق الغير. إن قلت: من الممكن أنه لا يعتني بأمر الاجاري، بل ليس غرضه من إيجاد العمل إلا امتثال الامر العبادي المتوجه إليه بحيث لو لم يكن ذلك الامر العبادي في البين لم يقدم على الاتيان أصلا، بل كان يعصي الامر الاجاري التوصلي. قلنا: نعم إن هذا أمر ممكن في بعض الاحيان ولكنه لابد في الامر الاجاري أن يكون المكلف بحيث لو أراد أن يوجد العمل المستأجر عليه بقصد الوفاء بذلك الامر الاجاري لكان له ممكنا. وبعبارة أخرى: لابد أن يكون ممكنا للاجير إتيان العمل بقصد تفريغ ذمته و إعطاء حق الغير ومعلوم أن مثل هذا المعنى لا يمكن بالنسبة إلى ما هو الواجب على نفس الاجير تعبديا لمنافاته للاخلاص. وأما إذا أخذ الاجرة على جعل نفسه نائبا عن قبل الغير في إتيان عمل عبادي كان واجبا عليه - أي على ذلك الغير لا على نفسه - فلا ينافي ذلك الاخلاص لان أخذ الاجرة على جعل نفسه نائبا لا على إتيان العمل بقصد أمره حتى تقول إن المحرك إلى العمل في الحقيقة هو أخذ الاجرة وجعل نفسه نائبا ليس أمرا عباديا بل
توصلي يقع بقصدها بأي داع كان. وبعبارة أخرى: هاهنا أمران عرضيان ليس أحدهما في طول الآخر حتى يكون من قبيل الداعي على الداعي:
[ 167 ]
أحدهما: جعل نفسه نائبا الذي قد يفعله تبرعا، وهذا أمر توصلي يقع بأي داع كان، وهذا الامر يقع متعلقا للاجارة ولا يلزم منه محذور أصلا. والثانى: إتيان العمل الذي كان واجبا على المنوب عنه، وهذا أمر عبادي لكن لم تقع الاجارة عليه فما وقعت الاجارة عليه ليس بعبادي وما هو عبادي لم تقع الاجارة عليه. إن قلت: إذا كانت الاجارة على صرف جعل نفسه نائبا فيستحق الاجرة بصرف هذا الجعل ولو لم يعمل وان كان يشمل العمل أيضا فيعود المحذور. قلنا: الاجارة على صرف جعل نفسه نائبا لكن في إتيان العمل الفلاني، ومعلوم أن تحقق عنوان النيابة في العمل الفلاني مثل كونه نائبا عن شخص في الحج مثلا لا يمكن وغير معقول بدون وجود العمل الفلاني، فوجود العمل الذي جعل نفسه نائبا عنه في إتيان ذلك العمل عنه مقدمة لتحقق عنوان النيابة التي استؤجر عليها، لا أنه بنفسه متعلق للاجارة أو قيد لمتعلقها. قال الشيخ: الذي ينساق إليه النظر أن مقتضى القاعدة جواز أخذ الاجرة على كل عمل كان له منفعة محللة مقصودة للعقلاء وان كان ذلك العمل واجبا على الاجير. ثم قال رحمه الله: إن ذلك العمل بعد وقوعه متعلقا للاجارة إما صالح لان يمتثل به الواجب المذكور أو كان مما يسقط الواجب به أو عنده فقد حصل الامران أي برائة ذمته عن الواجب واستحقاقه للاجرة، وإلا يستحق الاجرة فقط ويبقى الواجب في ذمته لو بقى له وقت يمكن إتيانه فيه أو كان مما له القضاء فيقضيه، والا يكون معاقبا
على تركه وعصيانه عن عمد 1. وبعبارة أخرى: صرف وجوب الشئ ليس بمانع عن أخذ الاجرة عليه، بل هيهنا تفصيل وهو أن الواجب على الاجير إما من قبيل الواجب العيني التعييني أم لا.
(1) " المكاسب " ص 63.
[ 168 ]
فالاول لا يصح أخذ الاجرة عليه ولو كان للعمل منفعة محللة مقصودة للعقلاء. وحاصل ما أفاد في وجه المنع أن مثل هذا العمل ليس بمحترم، فأكل المال بإزائه أكل بالباطل لانه مقهور على إيجاده وليس له أن يتركه في عالم التشريع، بل لو أراد أن يتركه يجبر على الاتيان من باب الامر بالمعروف طاب نفسه على الاتيان أم لا، و ما هذا شأنه خارج عن تحت قدرته واختياره في عالم التشريع فلا يصح أخذ الاجرة عليه، لما ذكرنا في المقدمة من اشتراط صحة الاجارة بأمور ثلاثة: أحدها: أن يكون الاجير قادرا على إتيان العمل الذي يؤجر نفسه عليه ولا فرق بين عدم القدرة التكوينية والتشريعية. ثم يقول: لا فرق في هذا بين التعبدي والتوصلي غاية الامر الواجب التعبدى إذا كان عينيا تعيينيا يختص بوجه آخر. مضافا إلى هذا الوجه وهو منافاة أخذ الاجرة مع الاخلاص وقصد القربة كما تقدم. ثم يجيب عن النقض الوارد عليه بجواز أخذ الاجرة للوصي على عمله بعد أن أوقعه وعمل - مع أن العمل واجب عيني تعييني على الوصي بعد أن قبل الوصية أو وصل الخبر إليه بعد موت الموصي - بأنه ليس من باب أخذ الاجرة وتحقق المعاملة الخاصة، بل حكم شرعي أجاز الشارع أن يأخذ الوصي بدل عمله ولا ربط له بباب الاجارة أصلا. هذا حاصل ما ذكره قدس سره في الواجب العيني التعييني، وأما سائر شقوق الواجب
وأقسامه فسننقل كلامه مع ما فيه إن شاء الله. وأنت خبير بأن ما ذكره شيخنا الاعظم قدس سره في مكاسبه في هذا المقام، الذى نقلناه بطور الخلاصة والمعنى إلى هاهنا، فيه مواقع للنظر. أما أولا: قوله: إن كل ماله منفعة محللة عقلائية يجوز أخذ الاجرة عليه نقول: صرف هذا المعنى لا يكفي في صحة الاجارة بل يحتاج إلى أمرين آخرين:
[ 169 ]
أحدهما: أن يكون العمل تحت اختياره وقدرته بمعنى أن يكون الاجير قادرا على الفعل والترك تكوينا وتشريعا فلو كان عاجزا عن الفعل أو الترك تكوينا أو تشريعا كما أن المكلف عاجز عن الفعل تشريعا في المحرمات وعن الترك في الواجبات، فلا يصح أخذ الاجره على مثل هذا العمل لانه بواسطة الوجوب مقهور على الفعل وليس له أن يترك. ثانيهما: أن يكون العمل قابلا للتمليك بحيث يمكن أن يصير ملكا للمستأجر، لان حقيقة الاجارة هو تمليك منفعة أو عمل بعوض مالي معلوم. إذا تبين هذا فنقول: إن قوله قدس سره: إن كل ماله منفعة محللة عقلائية يجوز أخذ الاجرة عليه - ولو كان واجبا وصرف الوجوب ليس مانعا عن جواز أخذ الاجرة - ليس كما ينبغي لان صرف الوجوب وطبيعته كان متخصصا بأى خصوصية و تحقق في ضمن أي قسم من أقسامها أي سواء كان عينيا أم كفائيا، وسواء أكان تعيينيا أم تخييريا، وسواء أكان نفسيا أم غيريا. وكل واحد من هذه الاقسام تعبديا كان أم توصليا أصليا كان في مقام الاثبات أم تبعيا مانع عن صحة الاجارة على نفس الواجب الذي هو محل الكلام، وأما تعلق الاجارة بأمر خارج عما هو متعلق الوجوب فخارج عن محل الكلام. والحاصل: أن ما تعلق به الوجوب خرج عن تحت قدرة الاجير على فعله وتركه
في عالم الاعتبار التشريعي، ويراه الشارع في عالم اعتباره التشريعي واجب الوجود ولا يرضى بتركه، ويرى الملكف الاجير ملزما بفعله، فنفس طبيعة الوجوب منافية لاخذ الاجرة غاية الامر إذا كان تعبديا تنضم إليه جهة أخرى أيضا وهو منافاته مع قصد القربة. وأما ثانيا: ما يقول في استحقاق الاجير للاجرة على كل حال غاية الامر إذا كان العمل الواجب مما يمتثل به الواجب أو يسقط الواجب به أو عنده فيبرأ ذمته عن
[ 170 ]
الواجب أيضا علاوة على استحقاقه للاجرة، وإلا يبقى الواجب في ذمته لو بقى وقته وإلا عوقب على تركه، فتصوير استحقاق الاجير للاجرة مع عدم سقوط الواجب في غاية الاشكال لان الاجارة على الفرض وقعت على إتيان ما هو واجب على نفسه، فلو أتى ما هو الواجب على نفسه سقط الوجوب واستحق الاجرة بناء على الجواز وإلا لم يستحق الاجرة أيضا، فالتفكيك بينهما لا نعقله بل لو كان توصليا وقلنا ببطلان الاجارة كما هو التحقيق يسقط الواجب ولا يستحق الاجرة. نعم إذا كان تعبديا وقلنا بأن قصد القربة لا يتحقق منه فلا يحصل كلا الامرين أي لا يسقط الواجب ولا يستحق الاجرة مع أنه هناك أيضا مقتضى بطلان الاجارة وامكان تحقق قصد القربة سقوط الواجب بالامتثال وعدم استحقاقه للاجرة، وعلى كل تقدير استحقاقه للاجرة مع عدم سقوط الوجوب شئ لا نعقله. وأما ما ذكره من عدم جواز أخذ الاجرة على الواجب العيني التعييني فحق لا محيص عنه، وقد أجاد فيما أفاد في وجه ذلك فجزاه الله خير الجزاء. وأما ما ذكره أخيرا من جواب النقض عليه بجواز أخذ الوصي أجرة عمله بأنه حكم شرعي فعجيب لان ما يأخذه بعنوان أجرة عمله لا بعنوان التعبد وانه إلزام من قبل الشرع باعطائه مجانا، فلو كان عمله غير محترم كما هو اعتراف شيخنا قدس سره في
هذا المقام فليس له أخذ شئ بعنوان بدل عمله فانه أكل بالباطل كما هو مصرح به في كلامه 1. والثانى أي ما ليس من قبيل الواجب العيني التعييني، فهو إما من قبيل التخييري ولو كان عينيا، أو من قبيل الكفائي ولو كان تعيينيا. أما التخيري فهو إما توصلي أو تعبدي، فان كان توصليا قال شيخنا الاعظم قدس سره: لا أجد مانعا عن جواز أخذ الاجرة على أحد فرديه بالخصوص، ثم يمثل لذلك بما إذا
(1) " المكاسب " ص 63.
[ 171 ]
تعين دفن ميت على شخص وتردد الامر بين حفر أحد موضعين يكون أحدهما راجحا عند الولي لغرض من الاغراض فيستأجره على حفر ذلك الموضع الخاص لم يمنع من ذلك كون مطلق الحفر واجبا عليه مقدمة للدفن 1. وأنت خبير بأنه فرق واضح بين أن يستأجره لايجاد الخصوصية فقط - التي هي خارجة عن متعلق الوجوب ولا يتحقق إلا فيما كان للخصوصية وجود مستقل ولو كان ملازما ومنضما إلى الطبيعة دائما بحيث لا تنفك عنها - وبين أن يستأجره لايجاد الطبيعة المتخصصة كما هو المفروض في مثال الشيخ. ولا شك في أن في القسم الثاني الذي هو ظاهر كلام شيخنا الاعظم قدس سره يتحد متعلق الوجوب والاجارة في نفس الطبيعة، وهذا موجب لبطلان الاجارة بعين البرهان الذي تقدم في الواجب التعييني، بل هو عين التعييني لانه ليس هناك واجب تعييني لا يتطرق فيه التخيير العقلي إلا فيما شذ وندر أي فيما إذا تعلق الوجوب بشخص فعل ممتنع الصدق على كثيرين كالصوم في شهر رمضان أو النذر المعين، مع أنه بالنسبة إلى صوم شهر رمضان أيضا يعقل التخيير بالنسبة إلى الامكنة. نعم في نذر المعين لو عين جميع جهاته من الزمان والمكان وسائر الجهات يمكن فرض عدم مجئ التخيير
العقلي في البين أصلا. نعم في القسم الاول لا مانع من أخذ الاجرة لكنه خارج عن موضوع البحث لان كلامنا في أخذ الاجرة على الواجبات وفي ذلك الفرض الواجب شئ ومتعلق الاجارة شئ آخر. وبعبارة أخرى: موضوع البحث هو أن يكون معروض الوجوب ومتعلق الاجارة شيئا واحدا بحيث لو قلنا بالجواز يحصل للاجير أمران: أحدهما: سقوط الواجب عن ذمته.
(1) المصدر.
[ 172 ]
والثاني: استحاقه للاجرة. وقد تقدم الاشكال على شيخنا قدس سره حيث أنه قال بامكان التفكيك بين الاستحقاق للاجرة وسقوط الواجب عن عهدة الاجير. هذا كله فيما إذا كان توصليا وأما إذا كان تعبديا - وذلك كغسل الميت إذا تعين على شخص وتردد الامر بين أن يكون بماء الفرات أو بماء آخر مثلا - قال شيخنا قدس سره في هذا المقام أيضا: إن قلنا بكفاية الاخلاص في القدر المشترك ولو كان إيجاد الخصوصية لداع آخر فيجوز أخذ الاجرة على الخصوصية وإلا فلا 1. وأنت خبير بأنه لا وجه لعدم كفاية الاخلاص في القدر المشترك أترى أن أحدا يمكن أن يستشكل فيما إذا اختار المصلي مكانا خاصا لصلاته من جهة برودة الهواء وحسنها أو لداع آخر عقلائي فليس في المسألة إشكال من هذه الناحية أصلا، بل الاشكال من الجهة التي تقدمت في التوصلي لان ذلك الاشكال مشترك بين التوصلي والتعبدي. والحاصل أن اتحاد الطبيعة مع الخصوصية في الوجود الخارجي لا يمنع من أن
يكون قصدها للاخلاص وقصد الخصوصية لغرض آخر. هذا كله كان في التخيير العقلي وأما التخيير الشرعي كخصال الكفارة فهل يجوز أخذ الاجرة على اختيار أحد الافراد أم لا؟ وليس في كلام شيخنا قدس سره تعرض لهذا القسم أصلا. والتحقيق فيه: أنه إن قلنا بأن في التخيير الشرعي أيضا متعلق الوجوب هو الجامع لامتناع قيام غرض واحد بالمتعدد بما هو متعدد - كما قيل - فمرجع التخيير الشرعي حينئذ إلى العقلي بل هو هو، ويكون تسميته بالتخيير الشرعي من جهة خفاء الجامع عن نظر العرف وتصريح الشارع بالمصاديق فحاله حال التخيير العقلي
(1) " المكاسب " ص 63.
[ 173 ]
- كما عرفت مفصلا - بل هو هو. ولكن هذا القول بمعزل عن التحقيق كما حقق في محله في الاصول. وان قلنا بان الواجب التخييري بالتخيير الشرعي عبارة عن تقييد إطلاق الواجب بعدم الاشتغال بعدله بمعنى أن كل واحد من الافراد حقيقة متعلق الوجوب غاية الامر ليس وجوبه مطلقا بل مقيد بصورة عدم الاشتغال بسائر الافراد، مثلا يجب إطعام ستين مسكين اما لا مطلقا حتى في صورة الاشتغال بأحد عدليه من صيام شهرين متتابعين أو تحرير رقبة، بل مقيد بصورة عدم الاشتغال بأحدهما، فليس ملزما باتيان أحد الافراد بالخصوص ولا جامع في البين حتى نقول ملزم باتيان ذلك كما قلنا في التخيير العقلي، فإذا لم يكن إلزام مطلق في البين فيبقى احترام عمله على حاله ولا يسقط بواسطة المقهورية. وبعبارة أخرى: حيث أن الشارع لم يلزم المكلف بخصوص أحد الافراد بل جوز الانتقال إلى بدله واختيار عدله، فاختيار أي واحد من الافراد والعدول يبقى على
احترامه ويجوز أخذ الاجرة عليه. وأما الواجب الكفائي إن كان تعبديا فالامر فيه واضح أن أخذ الاجرة مناف للاخلاص - كما بينا وعرفت - وان كان توصليا قال الشيخ قدس سره لا مانع من أخذ الاجرة ويقع العمل لباذل الاجرة لا للعامل 1. ولكن أنت خبير بان الكلام في أخذ الاجرة على ما هو الواجب على نفس الاجير يعني يأتي بما هو الواجب على نفسه ويأخذ الاجرة عليه فوقوع العمل لغيره - أي المستأجر - مع أنه أتى بما هو واجب على نفسه خلف. وبعبارة أخرى: لا يمكن أن يملك المستأجر العمل الذي واجب على الاجير ولو كان الوجوب كفائيا بعين البرهان الذي تقدم في الواجب العيني التعييني، من أن
(1) " المكاسب " ص 63.
[ 174 ]
المكلف ملزم بهذا الفعل ولا يجوز له تركه إلا في صورة اشتغال الغير، وأما في صورة عدم اشتغال الغير - كما هو المفروض في المقام - فهو مقهور في الفعل وليس له الترك، حتى أنه لو ترك يجبر من باب الامر بالمعروف فلا يبقى لعمله احترام على مذاق شيخنا الاعظم قدس سره كما أفاد في مكاسبه 1، أو ليس بقادر على الفعل والترك في عالم التشريع وهو الملاك في عدم صحة الاجارة عندنا. والحاصل: أن كلما كان واجبا على المكلف سواء أكان وجوبه عينيا أو كفائيا، تعيينيا أو تخييريا، نفسيا أو غيريا، تعبديا أو توصليا لا يجوز أخذ الاجرة عليه إلا في بعض أقسام التخييري أي التخيير الشرعي كما تقدم، وما قلنا من جواز أخذ الاجرة في التخيير الشرعي هو فيما إذا لم يكن تعبديا وأما التعبدي فلا يجوز مطلقا. إذا عرفت ما ذكرنا - من عدم صحة أخذ الاجرة على جميع أقسام الواجبات - فيرد الاشكال المشهور وهو أنه لا شك في جواز أخذ الاجرة على الصناعات التي
تجب كفاية على جميع المسلمين لاختلال سوقهم ونظام معاشهم بدون ذلك فكيف التفصي عن هذا الاشكال مع قولكم بعدم جواز أخذ الاجرة على جميع أقسام الواجب؟ وقد تفصى عنه بوجوه: منها: خروج هذه الواجبات عن تحت تلك القاعدة بالاجماع والسيرة. وفيه: استبعاد أن يكون أخذ الاجرة حكما تعبديا من طرف الشارع مخالفا لقواعد باب الاجارة بل المعاملات جميعا. منها: أن نقول في أصل المسألة بالفرق بين التعبدي والتوصلي بأنه يجوز أخذ الاجرة في التوصلى دون التعبدي كما هو مسلك جماعة، والواجبات النظامية كلها - إلا ما شذ وندر - توصلي فلا مانع من أخذ الاجرة عليها أصلا، ونلتزم فيما إذا كانت
(1) المصدر.
[ 175 ]
تعبدية بالعدم على فرض وجود التعبدي فيها. وفيه: أن هذا الاشكال يجري ويرد على ما اخترناه من عدم جواز أخذ الاجرة على الواجب مطلقا فلابد من التماس جواب آخر بالنسبة إلى من يختار مثل ما اخترناه. منها: اختصاص الجواز بصورة قيام من به الكفاية وفي تلك الصورة ليس بواجب. والجواب عنه أنه أولا: بقيام شخص آخر لا يسقط الوجوب ما لم يفعل فإذا فعل فلا يبقى موضوع حتى يتكلم في أنه يجوز أخذ الاجرة عليه أم لا ففي ظرف جواز أخذ الاجرة الذي هو ظرف عدم وجود الواجب من قبل ذلك الغير القائم به الوجوب باق ولم يسقط عن الاجير فيأتي الاشكال.
مضافا إلى أنه من المسلمات جواز أخذ الاجرة على هذه الواجبات ولو لم يكن أحد قائما بها، ولو تعين عليه بواسطة عدم وجود من به الكفاية. منها: الفرق بين الواجبات التي مطلوبة لذاتها لوجود مصالح فيها فلا يجوز، وذلك مثل دفن الميت وغسله وكفنه حيث أن في نفس هذه الافعال مصالح ملزمة اوجبت مطلوبيتها من قاطبة المكلفين كفاية وبين ما يكون مطلوبيتها لاجل عدم تحقق اختلال النظام وعدم قيام السوق للمسلمين. والجواب: أن هذا الفرق دعوى بلا برهان، بل ظاهر الدليل الذي يمنع عن جواز أخذ الاجرة على الواجبات عدم الفرق بين هذين القسمين من الواجب الكفائي. هذا مع أن نفس هذا التقسيم لا يخلو عن مناقشة. ومنها: أن الوجوب في هذه الامور مشروط بالعوض بمعنى أنه يجب على الخياط مثلا الخياطة بشرط إعطاء العوض على عمله، وهكذا بالنسبة إلى الصنائع الاخر ولا شك أن الواجب المشروط ليس بواجب عند عدم شرطه، وعند تحقق شرطه -
[ 176 ]
أي: إعطاء العوض باجارة أو جعالة أو غيرهما - فرض عدم جواز أخذ الاجرة خلف. والجواب عنه: أنه كيف يمكن أن يكون الوجوب مشروطا بما ينافيه ويضاده؟ فلا بد من رفع المنافاة والمضادة بينهما أولا ثم القول باشتراط الوجوب بالعوض باجارة أو غيرها. والتحقيق في الجواب عن هذا الاشكال هو أن الوجوب تارة يتعلق بفعل المكلف بالمعنى المصدري واخرى يتعلق به بالمعنى الاسم المصدري. بيان ذلك: أنه لو تعلق الوجوب بجهة إصدار فعل عن المكلف لا بما هو الصادر - أي كان المطلوب منه والذي يلزم به هو أن يصدر عنه هذا الفعل وان لا يمتنع عن
الاشتغال به وإلا فنفس الفعل وذاته يقع للفاعل ولا يخرج بهذا الطلب عن حيطة سلطانه - فلا يمنع عن أخذ الاجرة عليه لان المفروض أن المطلوب في هذا القسم هو اشتغال المكلف بالفعل وعدمه امتناعه عنه، وهذا هو الذي ألزم به فما خرج عن تحت قدرته في عالم التشريع ليس إلا صرف الاشتغال وعدم الامتناع عن العمل، وأما نفس العمل الصادر فليس بمطلوب فلم تخرج عن ملكه وحيطة سلطانه فيكون وجوب هذا القسم من الاعمال في باب الاعمال، كوجوب بيع الحنطة مثلا وعدم جواز احتكاره في باب الاموال، فكما أنه هناك وجوب صدور البيع وعدم جواز الاحتكار لا يخرج الحنطة عن ملكه وحيطة سلطانه فكذلك هيهنا وجوب صدور العمل عنه لا يخرج ذات العمل عن ملكه وسلطانه، فيجوز أخذ العوض على العمل الصادر لا على جهة الاصدار. فما هو الواجب شئ - أي جهة الاصدار والمعنى المصدري - وما هو يؤخذ العوض عليه شئ آخر أي نفس الصادر والمعنى الاسم المصدري. هذا كله فيما إذا تعلق الوجوب بالمعنى المصدري كجميع الواجبات النظامية التي
[ 177 ]
بتركها عن الجميع وعدم اشتغال من به الكفاية بها يتحقق اختلال النظام. وأما لو تعلق الوجوب بما هو الصادر أي تعلق بما هو الفعل بالمعنى الاسم المصدري فيخرج ذات الفعل ونفس العمل الصادر عن تحت قدرته تشريعا ويكون ملزما باتيانه، وليس له أن يتركه ولا يأتي به بل يجبر على الفعل إن أراد الترك من باب الامر بالمعروف. وقد بينا سابقا أن من شرائط صحة الاجارة - بل كل معاوضة في باب الاعمال - أن يكون العمل تحت سلطانه وقدرته تكوينا وتشريعا، فلو خرج عن ذلك لا يجوز أخذ الاجرة بل مطلق العوض بعنوان المعاملات المعاوضية. فظهر مما ذكرنا وجه جواز أخذ الاجرة على الواجبات النظامية.
ولا يرد هذا الاشكال على القائل بعدم جواز أخذ الاجرة على الواجبات مطلقا، لما عرفت من أن جهة الوجوب في الواجبات النظامية غير جهة أخذ الاجرة، و مسألة وجوب بذل المال للمضطر ووجوب الارضاع أيضا من هذا القبيل أي الواجب في الموردين هو العمل بالمعنى المصدري، فلا ينافي وجوبهما جواز أخذ عوض المال المبذول في الاول، وجواز أخذ الاجرة في الثاني كما هو صريح قوله تعالى: (فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) 1 ولا يردان نقضا على ما قلنا أيضا. والحاصل: أن أخذ الاجرة بل مطلق العوض بعنوان المعاوضة لا يجوز بالنسبة إلى العمل الذى يكون واجبا بالمعنى الاسم المصدري سواء أكان وجوبه تعبديا أم توصليا، عينيا أم كفائيا تعيينيا أم تخييريا، نفسيا أم غيريا، إلا فيما إذا كان الواجب واجبا تخييريا شرعيا، على احتمال أبديناه سابقا. هذا تمام الكلام بالنسبة إلى أخذ العوض في باب الواجبات. وأما المحرمات: فقد سبق الكلام في عدم جواز أخذ الاجرة عليها لان الممتنع شرعا كالممتنع عقلا، فالعمل المحرم غير مقدور شرعا فلا يجوز أخذ الاجرة بل كل
(1) الطلاق (65): 6.
[ 178 ]
قسم من أقسام المعاوضة، وأما المباح والمكروه فلا مانع من التكسب بهما أصلا. وأما المستحب: فالتحقيق فيه أنه إن كان تعبديا بالمعنى الاخص - يعني كان تحققه وامتثاله متوقفا على إتيانه بقصد القربة - فلا يجوز أخذ العوض أيضا عليه، لما ذكرنا في الواجب من منافاته مع الاخلاص المعتبر فيه فلا نعيد. وأما إن لم يكن كذلك بل كان توصليا يمكن أن يؤتى به بدون قصد القربة فلا وجه لعدم جواز المعاوضة عليه، وذلك كمسألة نيابة شخص عن غيره في عمل مستحب أو واجب على ذلك الغير فيما إذا كانت النيابة عن الغير في تلك الاعمال
مستحبة ولكن لا يكون تعبديا، بل كان يمكن أن يجعل نفسه نائبا عن غيره في عمل بدون قصد القربة وإن كان يمكن أن يقصد القربة ويستحق الثواب لكن ذلك ليس بلازم، بل ذلك بأي داع كان سواء أكان بداعي التقرب أو بداعي أخذ الاجرة، فحينئذ لا وجه للقول بعدم جواز أخذ الاجرة عليه لان المفروض أنه ليس تعبديا حتى يكون أخذ الاجرة منافيا للاخلاص، ولا بواجب كي يكون مقهورا ومجبورا بالاتيان في عالم التشريع فيكون خارجا عن تحت قدرته تشريعا، فلا يكون واجدا لاحد شروط صحة الاجارة كما تقدم الكلام فيه في الاجارة على الواجبات مفصلا. نعم ربما يتوهم في باب النيابة في العبادات إذا استؤجر عليها إشكال آخر لا ربط له بمسألة أخذ الاجرة على المستحبات التوصلية، وهو أن النيابة في العمل العبادي إذ وقعت متعلقة للاجارة فقهرا يكون نفس العمل العبادي أيضا داخلا في المستأجر عليه باعتبار كونه قيدا ومتعلقا للنيابة الخاصة فيكون أخذ الاجرة عليه منافيا للاخلاص. ونحن دفعنا هذا الاشكال فيما تقدم في الفرق بين أخذ الاجرة على ما هو واجب على نفس الاجير وبين ما هو كان واجبا على الغير وهو يأتي بالعمل بعنوان النيابة عنه بعدم الجواز في الاول والجواز في الثاني فلا نعيد.
[ 179 ]
والحمد لله أولا وآخرا والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وأهل بيته الطاهرين المعصومين.
[ 181 ]
21 - قاعدة البناء على الاكثر
[ 183 ]
قاعدة البناء على الاكثر * ومن جملة القواعد الفقهية المشهورة قاعدة " البناء على الاكثر عند الشك في عدد الركعات إن كان الشك في الرباعية الواجبة بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية ". وفيها جهات من البحث: الجهة الاولى في مدركها وهو عبارة عن الروايات المعتبرة الواردة في هذا المقام: منها: موثقة عمار الواردة في حكم الشك عن الصادق عليه السلام قال عليه السلام: " كلما دخل عليك من الشك في صلاتك فاعمل على الاكثر قال عليه السلام: فإذا انصرفت فاتم ما ظننت أنك نقصت " 1. ومنها: موثقته الاخرى قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شئ من السهو في الصلاة؟ فقال: " ألا أعلمك شيئا إذا فعلته ثم ذكرت أنك أتممت أو نقصت لم يكن عليك شئ؟ " قلت: بلى، قال عليه السلام: " إذا سهوت فابن على الاكثر فإذا فرغت و سلمت فقم فصل ما ظننت أنك نقصت، فان كنت قد أتممت لم يكن عليك في هذه
*. " القواعد " ص 71، " المبادى العامة للفقه الجعفري " ص 248. (1) " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 193، ح 762، باب أحكام السهو في - الصلاة...، ح 63، " الاستبصار " ج 1، ص 376، ح 1426، باب من شك فلا يدري صلى إثنتين أو ثلاثا، ح 4، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 318، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 8، ح 4.
[ 184 ]
شئ وان ذكرت أنك نقصت كان ما صليت تمام ما نقصت " 1. ومنها: موثقة ثالثة عن عمار أيضا قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: " يا عمار أجمع لك السهو كله في كلمتين: متى ما شككت فخذ بالاكثر، فإذا سلمت فاتم ما ظننت أنك نقصت " 2.
ثم إن المراد من السهو - في الموثقتين الاخيرتين - هو الشك لا السهو بمعناه الحقيقي أي النسيان وذلك أن الناسي إذا لم يلتفت إلى نسيانه لا في الصلاة ولا بعدها فلا يتوجه إليه حكم بالنسبة إلى نسيانه، وان التفت إليه فان كان في حال الصلاة والمفروض أن متعلق النسيان هو ركعات الصلاة فان كان ما أتى به ناقص فيجب أن يأتي بالباقي متصلا لا منفصلا كما في صلاة الاحتياط وظاهر هذه الروايات وان كان ما أتى به من الركعات زائدا على الفريضة فتكون الصلاة باطلة ويجب إعادتها. فالمراد بقرينة هذا الحكم - أي: قوله عليه السلام " فإذا فرغت وسلمت فقم فصل ما ظننت أنك نقصت " إلى آخره - هو الشك، واطلاق السهو على الشك بعلاقة السببية جائز لا ضير فيه، إذا المجاز بعلاقة السببية متعارف ومعهود في اللغة. وأما كون السهو سببا للشك فأمر معلوم غني عن البيان، ودلالة الموثقات الثلاث على هذا الحكم - أي البناء على الاكثر - واضح لا يحتاج إلى التكلم فيه. الجهة الثانية في شرح مفاد هذه القاعدة وهو يتوقف على بيان أمور:
(1) " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 349، ح 1448، باب أحكام السهو، ح 36، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 318، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 8، ح 3. (2) " الفقيه " ج 1، ص 340، باب أحكام السهو في الصلاة، ح 992، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 317، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 8، ح 1.
[ 185 ]
الامر الاول: أن الشك في عدد الركعات الذي هو موضوع هذه المسألة قد تكون في النافلة وقد تكون في الفريضة. والاول خارج عن محل كلامنا لورود أدلة خاصة على نفي الشك في النافلة
كقوله عليه السلام " ليس في النافلة سهو " 1. وقد تكلمنا في هذه القاعدة - أي قاعدة نفي الشك في النافلة - في هذا الكتاب 2، وقلنا بأنه مخير بين البناء على الاقل والبناء على الاكثر. والثاني قد يكون في الفريضة الثنائية مثل أن يكون الشك في فريضة الصبح بين الواحد والاثنين أو غيرها من الصور، وقد يكون في الثلاثية مثل أن يشك في المغرب بين الواحد أو الاثنين والثلاث أو غيرها من الصور - وقد يكون في الرباعية. وهذا على قسمين: لان الشك قد يكون قبل إكمال السجدتين من الركعة الثانية و قد يكون بعده. فالاول مثل أن يشك بين الاثنين والثلاث مثلا ولكن قبل إكمال السجدتين، مثل أن يكون شكه هذا في حال القيام أو في حال السجدة الاولى من الركعة التي بيده. والثانى مثل أن يكون شكه أيضا بين الاثنين والثلاث مثلا ولكن بعد إكمال السجدتين من الركعة التي بيده. وبعبارة أخرى: الشك في الفريضة الرباعية تارة يكون طرف الاقل من الشك أقل من الركعتين التامتين واخرى لا يكون كذلك بل يكون طرف الاقل هو حصول الركعتين التامتين فما زاد كالشك بين الثلاث والاربع في أي حال كان من الحالات. وأما الشك بين الاثنين فما زاد فلابد وأن يكون بعد تمامية السجدة الثانية، وإلا ليس
(1) " الكافي " ج 3، ص 359، باب من شك في صلاته كلها ولم يدر...، ح 5 و 9، " تهذيب الاحكام " ج 3، ص 54، ح 187، باب أحكام الجماعة وأقل الجماعة...، ح 99، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 340، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 24، ح 8. (2) سيأتي في هذه المجلدة، ص 317.
[ 186 ]
الشك بعد إكمال السجدتين.
فالشك في الثنائية والثلاثية خارج عن تحت هذه القاعدة مطلقا وفي أي حال من الاحوال كان، والشك في الرباعية أيضا خارج إن كان قبل إكمال السجدتين بالمعنى الذي عرفت أي كون طرف الاقل من الشك أقل من الركعتين التامتين وذلك لما دل على بطلان الصلاة بهذه الشكوك، وتلك الادلة أخص من الموثقات فتخصص بها. فبناء على هذا لو شك في الثلاثية أو في الثنائية الواجبة - كصلاة المغرب أو الصبح، وفي السفر سواء أكانت ثنائية بالاصل أو صارت ثنائية بواسطة وجوب التقصير في السفر وكصلاة الجمعة وصلاة الكسوف بل وصلاة العيدين بناء على عدم شمول حكم النافلة لهما في عصر الغيبة وإلا تكون خارجة عن محل البحث - تكون صلاته باطلة وليست مشمولة لهذه الموثقات. والدليل على بطلانها - وتخصيص هذه الموثقات به - قوله عليه السلام في مصحح حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه السلام: " إذا شككت في المغرب فاعد وإذا شككت في الفجر فأعد " 1. وصحيح العلاء عن الصادق عليه السلام سألته عن الرجل يشك في الفجر؟ قال عليه السلام: " يعيد ". قلت: المغرب؟ قال عليه السلام: " نعم والوتر والجمعة " من غير أن أسأله 2. وقوله عليه السلام في هذه الرواية " والوتر والجمعة " مبني على أن يكون الوتر ثلاثة ركعات أي مجموع الشفع والوتر، وإلا لو كان الوتر عبارة عن الركعة الواحدة مقابل
(1) " الكافي " ج 3، ص 350، باب السهو في الفجر والمغرب والجمعه، ح 1، " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 178، ص 714، باب أحكام السهو في الصلاة وما يجب منه إعادة الصلاة، ح 15 و 24، " الاستبصار " ج 1، ص 365، ح 1390، باب الشك في فريضة الغداة، ح 1 و 7، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 304، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 2، ح 1 و 5. (2) " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 180، ح 722، باب أحكام السهو في الصلاة وما يجب منه اعادة الصلاة، ح 23، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 305، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح 7، وص 331، أبواب الخلل الواقع
في الصلاة، باب 18، ح 3.
[ 187 ]
الشفع فتصوير الشك في عدد الركعات لا يخلو من نظر. نعم يمكن الشك فيه بمعنى الشك في وجوده وعدمه. وموثق سماعة قال: سألته عن السهو في صلاة الغداة؟ فقال عليه السلام: " إذا لم تدر واحدة صليت أم ثنتين فأعد الصلاة من أولها، والجمعة أيضا إذا سها فيها الامام فعليه أن يعيد الصلاة لانها ركعتان، والمغرب إذا سها فيها فلم يدر كم ركعة صلى فعليه أن يعيد الصلاة " 1. ومصحح ابن مسلم قال: سالت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يصلي ولا يدري واحدة صلى أم ثنتين؟ قال: " يستقبل حتى يستيقن أنه قد أتم " 2. ويظهر من موثق سماعة أن كون الصلاة التي وقع فيها الشك ركعتين موجب للبطلان وذلك من جهة تعليله عليه السلام إعادة الجمعة التي وقع فيها السهو - أي الشك - بقوله عليه السلام: " لانها ركعتان " فيستفاد حكم كل فريضة ثنائية منها سواء أكانت ثنائية بالاصل كالصبح والجمعة والعيدين وصلاة الآيات أو صارت ثنائية بواسطة السفر كالتقصير في الرباعيات في السفر. وعلى كل حال يظهر من هذه الروايات بطلان الصلاة في ثلاثة أقسام: أحدها الثنائية الواجبة. الثاني: الثلاثية الواجبة. الثالث: أن يكون الشك بين الواحدة وما زاد. وأما ما ذهب إليه الصدوق قدس سره 3 من التخيير بين الاعادة والبناء على الاقل فيما إذا
(1) " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 179، ح 720، باب أحكام السهو في الصلاة...، ح 21، " الاستبصار " ج 1، ص 366، ح 1394، باب الشك في فريضة الغداة، ح 5، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 305، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 2، ح 8. (2) " الكافي " ج 3، ص 351، باب السهو في الفجر والمغرب والجمعة، ح 2، " تهذيب الاحكام " ج 2، ص
179، ح 715، باب أحكام السهو في الصلاة و...، ح 16، " الاستبصار " ج 1، ص 365، ح 1391، باب الشك في فريضة الغداة، ح 2، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 304، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 2، ح 2. (3) حكى عنه العلامة في " المنتهى " ج 1، ص 410، وراجع: " الفقيه " ج 1، ص 351، باب أحكام السهو في الصلاة، ذيل ح 1024.
[ 188 ]
شك بين الواحدة والاثنين، للجمع بين الروايات المتقدمة ورواية الحسين بن أبي العلاء عن الرجل لا يدري أركعتين صلى أم واحدة؟ قال عليه السلام: " يتم " 1. ففيه: بأن هذا الجمع لا شاهد له وليس جمعا عرفيا كما في الخاص والعام والحاكم والمحكوم والظاهر والاظهر، ومضافا إلى أن هذه الرواية لم يعمل بها أحد، حتى أن الوحيد وصاحب الحدائق 2 - قدس سرهما - أنكرا نقل هذا القول عن الصدوق. وكذلك رواية عمار - عن رجل لم يدر صلى الفجر ركعتين أو ركعة؟ قال عليه السلام: " يتشهد وينصرف ثم يقوم فيصلي ركعة، فان كان قد صلى ركعتين كانت هذه تطوعا، وإن كان قد صلى ركعة كانت هذه تمام الصلاة ". قلت: فصلى المغرب فلم يدر اثنتين صلى أم ثلاثا؟ قال عليه السلام: " يتشهد وينصرف ثم يقوم فيصلي ركعة فان كان صلى ثلاثا كانت هذه تطوعا وإن كان صلى اثنتين كانت هذه تمام الصلاة " 3 - لم يعمل به أحد وأعرض عنه الجميع. وخلاصة الكلام أن بطلان الصلاة في الموارد الثلاثة المذكورة اتفاقي لم ينكره أحد إلا الصدوق قدس سره فيما تقدم وقد عرفت الحال فيه. وأما الشك في الرباعية قبل إكمال السجدتين: فيدل على بطلانها هو صحيح زرارة: روى الصدوق باسناده عن زرارة بن أعين قال: قال أبو جعفر عليه السلام: " كان الذي فرض الله على العباد عشر ركعات وفيهن القرائة وليس فيهن وهم - يعني سهو - فزاد رسول الله صلى الله عليه وآله سبعا وفيهن الوهم وليس فيهن قراءة، فمن شك في الاولتين أعاد
(1) " تهذيب الاحكام، ج 2، ص 177، باب أحكام السهو في الصلاة...، ح 11، " الاستبصار " ج 1، ص 364، ح 1387، باب السهو في الركعتين الاولتين، ح 11، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 303، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 1، ح 20. (2) " الحدائق الناضرة " ج 9، ص 193. (3) " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 182، ح 728، باب أحكام السهو في الصلاة و...، ح 29، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 306، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 2، ح 12.
[ 189 ]
حتى يحفظ ويكون على يقين، ومن شك في الاخيرتين عمل بالوهم " 1. وأيضا روى باسناده عن عامر بن جذاعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " إذا سلمت الركعتان الاولتان سلمت الصلاة " 2. وأيضا باسناده عن ابراهيم بن هاشم في نوادره عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال: " ليس في الركعتين الاولتين من كل صلاة سهو " 3. وما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " إذا سهوت في الاولتين فأعدهما " 4. ورواية موسى بن بكر قال: سأله الفضيل عن السهو؟ فقال: " إذا شككت في الاولتين فأعد " 5. هذه جملة مما يدل على بطلان الصلاة إذا كان الشك في الاولتين، وبهذا المضمون روايات كثيرة فوق حد الاستفاضة. وحاصل مفاد جميعها هو بطلان الصلاة ولزوم الاعادة مع احتمال نقص في الاولتين، بل لابد في الحكم بصحة الصلاة من حفظ الاوليين بتمامهما وكمالهما، ولازم هذا المعنى هو أن يكون الشك بعد إكمال السجدتين فالشك في الموارد الاربعة المذكورة موجب للبطلان وخارج عن مفاد أخبار البناء على الاكثر حكومة
(1) " الفقيه " ج 1، ص 201، باب فرض الصلاة، ح 605، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 299، أبواب الخلل الواقع
في الصلاة، باب 1، ح 1. (2) " الفقيه " ج 1، ص 346، باب أحكام السهو في الصلاة، ح 1010، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 299، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 1، ح 3. (3) " الفقيه " ج 1، ص 352، باب أحكام السهو في الصلاة، ح 1028، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 300، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 1 ح 4. (4) " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 177، ح 706، باب أحكام السهو في الصلاة...، ح 7، " الاستبصار " ج 1، ص 364، ح 1383، باب السهو في الركعتين الاولتين، ح 7، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 302، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 1، ح 15. (5) " الاستبصار " ج 1، ص 364، ح 1381، باب السهو في الركعتين الاولتين، ح 4، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 302، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 1، ح 19.
[ 190 ]
أو تخصيصا. ثم إنه من موارد بطلان الصلاة بالشك في عدد ركعاتها - وعدم شمول هذه القاعدة له - هو الشك بين الاثنتين والخمس أو الاكثر وان كان بعد إكمال السجدتين وذلك من جهة أنه لا طريق إلى تفريغ الذمة مما اشتغل به يقينا لا وجدانا ولا تعبدا. أما وجدانا فواضح لان المفروض أنه شاك في أن ما أتى به اثنتين أو الخمس أو الاكثر فان سلم ولم يأت بشئ فاحتمال النقيصة والزيادة كلاهما موجود وليس دليل تعبدي في البين يدل على عدم مضرية هذه الزيادة أو النقيصة على تقدير وجودهما. ولو أتى بما يحتمل نقصانه فيبقى احتمال الزيادة وليس شئ يدل على عدم مضرية هذا الاحتمال وتفريغ الذمة. وأما تعبدا فمن جهة عدم شمول روايات البناء عى الاكثر للمقام لانها واردة فيما إذا كان الاكثر صحيحا كي يكون موجبا لتفريغ الذمة.
وأما إذا كان البناء على الاكثر موجبا لفساد الصلاة فهو خارج عن محط نظر هذه الاخبار. وبعبارة أخرى: هذه الروايات كلها ناظرة إلى علاج العمل وكيفية تصحيحه فلا يشمل الامر الذي يوجب بطلان العمل فليس هذا المورد مشمولا لتلك الاخبار العلاجية، أي البناء على الاكثر واتمام ما نقص منفصلا بصلاة الاحتياط. وأما أخبار البناء على اليقين فأيضا لا تشمل المقام لان الظاهر منها أيضا هو البناء على الاكثر وتتميم ما نقص بصلاة الاحتياط كي يحصل اليقين بالبرائة على كل واحد من التقديرين، وفيما نحن فيه لا يمكن ذلك لانه على تقدير كونه في الواقع هو الاقل يمكن التدارك بصلاة الاحتياط وتحصيل اليقين بتفريغ الذمة، وأما على تقدير كونه هو الاكثر تكون الصلاة باطلة ولم يرد دليل بالخصوص على عدم كون الزيادة على تقدير وقوعها مضرة.
[ 191 ]
وأما استصحاب عدم تحقق الزيادة على المقدار المعلوم وهو الاثنتين ففيه أولا: أنه طرح الشارع إجراء الاستصحاب في باب الشك في عدد الركعات لحكمه بالبناء على الاكثر. وثانيا أن الاستصحاب لا يثبت أن ما أتمه هي الركعة الثانية حتى يتشهد فيها ولا الثاني من الركعتين التاليتين اللتين يأتي بهما بعد الاستصحاب أنها الرابعة فيأتي فيها بالتشهد الاخير إلا على القول بالاصل المثبت. مع أن صريح الاخبار أن ظرف التشهد الاول هو بعد رفع الرأس عن السجدة الثانية في الركعة الثانية، والتشهد الثاني هو بعد رفع الرأس عن السجدة الثانية من الركعة الرابعة فلا طريق إلى تصحيح العمل وتفريغ ما في الذمة بالاستصحاب فلابد من الاعادة. وهذا معنى كون الشك موجبا للبطلان.
فظهر أن مورد الخامس من الشكوك المبطلة أيضا خارج عن عموم هذه القاعدة وعلى هذا المنوال المورد السادس والسابع من موارد الشكوك المبطلة - أي الشك بين الثلاث والست أو الازيد أو الشك بين الاربع والست أو الازيد - يكونان خارجين عن عموم هذه القاعدة أي البناء على الاكثر. أما المورد السادس فلعين ما ذكرنا في المورد الخامس حرفا بحرف. وأما المورد السابع - أي: الشك بين الاربع والست أو الازيد فقد قاسه بعضهم - وهو ابن أبي عقيل 1 - بالشك بين الاربع والخمس فقال بالصحة قياسا على الشك بين الاربع والخمس. ولكن أنت خبير بأن الصحة هناك لدليل خاص لا يشمل المقام، فان قوله عليه السلام في صحيح عبد الله بن سنان - " إذا كنت لا تدري أربعا صليت أم خمسا فاسجد سجدتي
(1) " مختلف الشيعة " ج 2، ص 390.
[ 192 ]
السهو بعد تسليمك " 1 - حكم خاص في موضوع خاص أي الشك بين الاربع و الخمس، فاسراء هذا الحكم إلى موضوع آخر - وهو الشك بين الاربع والست يشبه القياس أو هو هو. وأما كون المراد هو الشك بين ما هو تمام العدد الصحيح وما هو الزائد عليه - و ذكر الخمس في الرواية من باب أحد المصاديق - دعوى بلا بينة بل خلاف ظاهر الرواية. وأما التمسك لصحته باستصحاب عدم تحقق الزائد على الاربع فقد بينا أنه لا يثبت أن ما أتمه هي الركعة الرابعة إلا على القول بالاصل المثبت. مضافا إلى ما ذكرنا من أن الشارع لم يعتن بالاستصحاب في تعيين عدد ركعات الصلاة بل أسقطه عن الاعتبار بجعل البناء على الاكثر فيما إذا شك في أعداد الرباعية بعد إكمال الركعتين الاولتين.
وأما المورد الثامن من الشكوك المبطلة - وهو أن يكون شكه بحيث لا يدري أنه كم صلى - فهو أيضا خارج عن عموم هذه الموثقات للاجماع على بطلان الصلاة ولزوم الاعادة وللروايات المعتبرة الواردة في لزوم الاعادة إذا اتفق كون شكه هكذا أي كان بحيث لا يدري أنه كم صلى واحدة أم اثنتين أم ثلاثا أم أربع. منها: رواية صفوان عن أبي الحسن عليه السلام: " إن كنت لا تدري كم صليت ولم يقع وهمك على شئ فأعد الصلاة " 2. هذا مضافا إلى أن مرجع هذا الشك إلى عدم حفظ الاوليين وقد تقدم أنه يبطل الصلاة عند عدم حفظهما.
(1) " الكافي " ج 3، ص 355، باب من سها في الاربع والخمس...، ح 3، " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 195، ح 767، باب أحكام السهو في الصلاة...، ح 68، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 314، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 5، ح 2، وباب 14، ح 1. (2) " الكافي " ج 3، ص 358، باب من شك في صلاته كلها...، ح 1، " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 187، ح 744، باب أحكام السهو في الصلاة...، ح 45، " الاستبصار " ج 1، ص 373، ح 1419، باب من شك فلم يدر صلى ركعة أو اثنتين...، ح 2، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 327، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح 1.
[ 193 ]
وخلاصة الكلام أن جميع الصور الثمانية التي تكون للشكوك المبطلة خارج عن عموم هذه القاعدة وذلك من جهة أن أخبار البناء على الاكثر وردت في مقام علاج الشك في عدد الركعات فإذا كان الشك غير قابل للعلاج - ولابد فيه من إعادة الصلاة أو جاء دليل خاص على بطلان الصلاة بشك - فيكون خارجا عن عموم هذه الموثقات. وقد عرفت مما ذكرنا أن الشكوك المبطلة لا تخلو من أحد هذين الامرين: إما لا يمكن العلاج فيها وإما دل دليل خاص على بطلان الصلاة بها.
هذا حال الشكوك المبطلة. وأما الشكوك التي لا اعتبار بها كشك كثير الشك، وشك كل واحد من الامام والمأموم مع حفظ الآخر، والشك في النافلة، والشك في صلاة الاحتياط، فكلها خارجة عن تحت هذه القاعدة وعموم هذه الموثقات حكومة أو تخصيصا. وأما الشكوك التسعة الصحيحة فكلها مشمولة لهذه الموثقات كما سنبين فيما سيأتي إن شاء تعالى. الامر الثاني: في أنه عليه السلام بصدد علاج الشك بقوله: " إذا سهوت فابن على الاكثر " أو قوله: " كلما دخل عليك من الشك في صلاتك فاعمل على الاكثر فإذا انصرفت فاتم ما ظننت أنك نقصت " أو غيرهما مما هو بهذا المضمون. ومعلوم أن هذا العلاج لا يتم فيما إذا كان الاكثر من طرفي الشك أو أطرافه زائدا على الاربع. فإذا كان الشك في الرباعية قبل إكمال السجدتين من الركعة الثانية تكون الصلاة باطلة لما تقدم، وتكون هذه الصورة خارجة عن عموم هذه الاخبار لما تقدم أيضا. وأما إن كان بعد تمامية الركعتين وسلامتهما، فلو كان أحد طرفي الشك أو أحد أطرافه زائدا على الاربع، فالصلاة أيضا باطلة لعدم تطرق هذا العلاج وليس
[ 194 ]
علاج آخر. نعم في خصوص الشك بين الاربع والخمس بعد إكمال السجدتين جاء الدليل على الصحة بالبناء على الاقل الذي هو الاربع - وسجدتي السهو للزيادة المحتملة - أو كان هذا الشك في حال القيام حتى بهدمه يرجع الشك إلى الثلاث والاربع كي لا يكون البناء على الاكثر مبطلا، وهذا يجري في كل مورد كان طرف الاكثر هو الخمس و كان في حال القيام كي يرجع بالهدم إلى الاقل من الاربع والاربع فيمكن تطرق هذا
العلاج فتشمله هذه الاخبار. الامر الثالث: في صور الشك في الرباعية وهو على قسمين: مركب وبسيط. والمراد بالشك البسيط هو أن يكون للشك طرفان فقط: الاقل والاكثر، كالشك بين الاثنين والاربع، أو الثلاث والاربع. والمراد بالمركب هو أن يكون أطراف الشك أكثر من الاثنين كالشك بين الاثنين والثلاث والاربع. وفي كل واحد من القسمين - أي البسيط والمركب - إما أن لا يكون طرف الاكثر أكثر من الاربع أو يكون، والقسم الثالث هو أن يكون كلا طرفي الشك أكثر من الاربع. وان شئت قلت: تارة لا يكون كلا طرفي الشك أكثر من الاربع. واخرى يكون كلاهما أكثر من الاربع. وثالثة يكون أحد طرفيه أكثر دون الآخر. أما الاول كالشك بين الثلاث والاربع. وأما الثاني كالشك بين الخمس والست. وأما الثالث كالشك بين الاربع والخمس. فمجموع الاقسام يصير ستة: اثنان منها البسيط والمركب في نفس الرباعية بمعنى أن طرف الاكثر ليس زائدا على الاربعة، أو كلاهما - أي طرفا الشك في البسيط والمركب - في الزائد على الاربعة، أو كلاهما - أي البسيط والمركب - فيما إذا كان أحد
[ 195 ]
طرفي الشك في الاربعة والطرف الآخر في الزائد عليها. أما القسم الاول أي الشك البسيط في نفس الاربعة صوره ثلاث: وهي الشك بين الاثنين والثلاث، والشك بين الاثنين والاربع، والشك بين الثلاث والاربع. أما القسم الثاني أي: الشك المركب في نفس الاربعة فصورة واحدة وهي الشك بين الاثنين والثلاث والاربع.
فهذه أربع صور للشك البسيط والمركب في نفس الاربعة، أي ليس طرف الاكثر زائدا على الاربعة. وأما القسم الثالث أي الشك البسيط فيما إذا كان طرفا الشك زائدا على الاربعة كالشك بين الخمس والست. وأما القسم الرابع أي الشك المركب في الزائد على الاربعة بحيث تكون أطراف الشك زائدة على الاربعة كالشك بين الخمس والست والسبع. وأما القسم الخامس أي الشك البسيط بحيث يكون أحد طرفيه في الاربعة والطرف الآخر فيما زاد عليها كالشك بين الاربع والخمس. وأما القسم السادس أي الشك المركب فيما إذا كان طرف الاقل داخلا في الاربعة وطرف الاكثر زائدا عليها، كالشك بين الثلاث والاربع والخمس أو بين الاربع والخمس والست. إذا عرفت هذا فنقول: أما حكم القسم الاول والثاني أي تلك الصور الاربع فواضح أي يجب البناء على الاكثر، وتتميم ما يحتمل نقصه بصلاة الاحتياط كما هو صريح موثقات عمار.
[ 196 ]
نعم هاهنا أمران يجب أن يذكر: الامر الاول: أن مقتضى قوله عليه السلام - " فابن على الاكثر " لو لم يكن قوله عليه السلام: " فإذا سلمت فاتم ما ظننت أنك نقصت " - هو المضي وعدم وجوب صلاة الاحتياط لان معنى البناء على الاكثر عدم الاعتناء باحتمال الاقل عملا بل يجب عليه أن يجعل عمله على طبق احتمال الاكثر. لست أقول إنه - أي البناء على الاكثر - أمارة ومن باب تتميم الكشف لان الشك مأخوذ في موضوعه، ومثل ذلك لا يمكن أن يكون أمارة لان مفاد الامارة إلغاء
الشك، والموضوع لابد وأن يكون محفوظا حتى يأتي الحكم وتخلفه عن الموضوع خلف محال، بل ولا نقول بانه من الاصول المحرزة لان الاصل المحرز عبارة عن لزوم العمل على طبق أحد طرفي الشك عمل المتيقن به ولذلك يكون حاكما على الاصل غير المحرز لرفع موضوعه به تعبدا، وليس في أخبار الباب ما يدل على أن العمل بالاكثر والبناء عليه باعتبار أنه عمل المتيقن بالاكثر. وعلى كل حال فيكون معنى البناء على الاكثر ترتيب آثار الاكثر شرعا من حيث العمل، ومن آثار الاكثر أنه ليس عليه شئ لا صلاة الاحتياط ولا غيرها، فتشريع صلاة الاحتياط بملاحظة احتمال الاقل وتداركه ولذلك ربما يقال بأن جعل صلاة الاحتياط مرجهه إلى البناء على الاقل لا البناء على الاكثر، وقوله عليه السلام " ابن على الاكثر " يكون باعتبار تصحيح محل التشهد والتسليم، وإلا فبحسب أصل كمية صلاة الفريضة يكون البناء على الاقل. ولذلك قال بعضهم: إن البناء على الاكثر في الصلاة ليس مخالفا للاستصحاب، بل وجوب صلاة الاحتياط يكون نتيجة استصحاب عدم إتيان ما يحتمل عدم إتيانه، وإلا لم يكن وجه لوجوب الاتيان بصلاه الاحتياط. الامر الثاني: في أن طرف الاقل من الشك في الرباعية إذا كان الاثنتين لابد وأن
[ 197 ]
يكون بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية لما تقدم من دلالة الروايات على لزوم حفظ الاوليين بتمامهما وكمالهما، وان الشك في أي جزء منهما ما لم يكن دليل شرعي أو عقلي على تماميتهما مبطل للصلاة فيقع الكلام في أنه ما المدار في إكمال السجدتين؟ هل هو الدخول في السجدة الثانية مع الاستقرار فيها أو بعد الاتيان بذكر الواجب فيها أو بعد رفع الرأس عنها؟ ونسب الاخير إلى المشهور. ولكن الظاهر أن المدار في إكمالها هو الاتيان بالذكر الواجب في السجدة الثانية من
الركعة الثانية وذلك من جهة أن وجود المركب بوجود تمام أجزائه فإذا وجد الجزء الاخير منه مع كونه مسبوقا بوجود سائر الاجزاء في المركب التدريجي الوجود يصدق أنه وجد بتمامه وكماله، وأما الخروج عنه فليس جزء له كما هو واضح. ومعلوم أن الركعة عبارة عن القيام والذكر الواجب فيه من القرائة أو التسبيح والركوع والسجدتين، فإذا وجد هذه الامور فقد وجد الركعة بتمامها واحتمال أن يكون رفع الرأس من السجدة الثانية أيضا جزء للركعة بعيد بل مقطوع العدم، لعدم الدليل عليه وانما هو مقدمة للدخول في الركعة التى بعدها أو للتشهد والتسليم. الجهة الثالثة في موارد تطبيق هذه القاعدة فنقول: إذا عرفت هذه الامور فلنرجع إلى التكلم في الشكوك الاربعة للقسم الاول والثاني أي الشك البسيط والمركب من الشك في نفس الرباعية من دون أن يكون طرف الاكثر زائدا على الاربعة. الصورة الاولى: أي الشك بين الاثنتين والثلاث بعد إكمال السجدتين فهو يبنى على الثلاث على المشهور بل ادعى عليه الاجماع، بل عن الامالي: أنه من دين
[ 198 ]
الامامية 1. والدليل عليه هي الموثقات العمار الثلاث التي تقدمت 2. هذا هو الحكم الاول في هذا الشك والحكم الثاني هو الاتيان بصلاة الاحتياط ركعة من قيام أو ركعتين من جلوس بعد إتمام صلاته أي بعد إتيان الرابعة والتشهد والتسليم. والدليل على وجوب صلاة الاحتياط قبل الاجماع - لما قلنا مكررا من أن الاجماع
في أمثال هذه الموارد مما لها مدرك من الاخبار الصحيحة المعمول بها عند الاصحاب لا وجه له - هو ذيل الموثقات الثلاث للعمار أي قوله عليه السلام: " فإذا انصرفت فاتم ما ظننت أنك نقصت "، وما هو بمضمونه في الموثقتين الاخريين، فان ذيل هذه الموثقات صريح في أن إتمام مظنون النقصان إنما هو بعد الفراغ من الصلاة والانصراف عنها فيكون بصلاة مستقل وهو الذي نسميه بصلاة الاحتياط. ثم إن هاهنا أمران: الامر الاول: إن في هذه المسألة أقوال أخر: البناء على الاقل وهو المحكي عن الصدوق محمد بن علي بن بابويه في الفقيه 3، والتخيير بين البناء على الاقل والاكثر و هو المحكي عن والده علي بن بابويه 4، والاعادة وهو المحكي عن المقنع 5. ومنشأ هذه الاقوال هو اختلاف الاخبار الواردة في هذا المقام فلنذكرها كي نرى ما هو المحصل منها، فنقول:
(1) " أمالى الصدوق " ص 513. (2) تقدم في ص 183 و 184. (3) حكى عنه في " مدارك الاحكام " ج 4، ص 256. (4) " فقه الرضا " ص 117 - 118. (5) " المقنع " ص 101.
[ 199 ]
منها مصحح زرارة - أو حسنته - عن أحدهما عليهما السلام قال: قلت له: رجل لا يدري واحدة صلى أم اثنتين؟ قال: " يعيد ". قلت: رجل لا يدري اثنتين صلى أم ثلاثا؟ قال: " إن دخله الشك بعد دخوله في الثالثة مضى في الثالثة ثم صلى الاخرى ولا شئ عليه ويسلم " 1. فربما يقال: بأن هذه الرواية دليل على قول الصدوق قدس سره أي البناء على الاقل و
ذلك من جهة أن قوله عليه السلام " مضى في الثالثة ثم صلى الاخرى " معناه أن ما أتى به هو اثنين وهذا الذي بيده هو الثالثة ويصلى الاخرى أي الركعة الرابعة الباقية متصلة و يسلم ولا شئ عليه، لا الاعادة ولا صلاة الاحتياط، وهذا هو البناء على الاقل. وبعبارة أخرى: ظاهرها أن الركعة التي يشك في أنها الثانية أو الثالثة هي التي فرغ عنها ودخل في الثالثة، فالامر بالمضي في الثالثة وقوله عليه السلام بعد ذلك " ثم صلى الاخرى - أي الرابعة - ويسلم " صريح في أنه أمر بالبناء على أن الركعة المشكوكة التي فرغ عنها بالدخول في الثالثة هي الثانية وهذا هو البناء على الاقل، فيخصص بها موثقات عمار المتقدمة لانها أخص منها، والنتيجة هي قول الصدوق قدس سره أي البناء على الاقل. هذا أحد الاحتمالين في الرواية الذى موافق لما نسب إلى الصدوق وحكي أيضا عن السيد - قدس سرهما - في المسائل الناصريات 2. والاحتمال الآخر - الذي موافق لمذهب المشهور أي: البناء على الاكثر وأصر عليه صاحب الحدائق 3 واستظهره من هذه الرواية - هو أن يكون اللام في قوله " إن
(1) " الكافي " ج 3، ص 350، باب السهو في الركعتين الاولتين، ح 3، " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 192، ح 759، باب أحكام السهو في الصلاة...، ح 60، " الاستبصار " ج 1، ص 375، ح 1423، باب من شك فلا يدري صلى اثنين أو ثلاثا، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 300، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 1، ح 6، وباب 9، ح 1. (2) " الناصريات " ضمن الجوامع الفقهية، ص 237. (3) " الحدائق الناضرة " ج 9، ص 212.
[ 200 ]
دخله الشك " للعهد أي الشك المسؤول عنه إن عرض له بعد الدخول في الثالثة أي الركعة التي قطعا ليس أقل من الثالثة، وان كان من المحتمل أن تكون هي الرابعة.
وقوله عليه السلام بعد ذلك " مضى في الثالثة " أي يمضي في صلاته مع بنائه على أن تلك الركعة المشكوكة المحتملة أن تكون الثانية أو تكون الثالثة هي الثالثة فتكون الركعة التي بيده هي الرابعة فيكون المراد بقوله " ثم صلى الاخرى " هو أن يأتي بركعة منفصلة أعني صلاة الاحتياط، وبعد أن أتم ما ظن نقصه بصلاة الاحتياط يسلم و هذا كما ترى هو البناء على الاكثر في الركعة المشكوكة. ومما يؤيد أن المراد بقوله عليه السلام " ثم صلى الاخرى " هي الركعة المنفصلة لا الموصولة هي كلمة " ثم " التي للترتيب بانفصال، وإلا لو كان المراد هي الركعة الموصولة لكان ينبغي أن يقول عليه السلام " مضى في الثالثة ويصلي الاخرى " بالواو لا بثم. ثم إنه على تقدير أن لا يكون هذا الاحتمال أظهر من الاحتمال الاول لكن يكون موجبا لاجمال الرواية فلا يكون دليلا على البناء على الاقل كما توهم. ولكن الانصاف أن الاحتمال الاول - أي كون الامر بالمضي في الثالثة بمعنى أنه يبنى على أن ما بيده الذي هو كان ظرف وجود الشك في أن الركعة التي خرج منه و دخل في الثالثة هل هي الثانية أو الثالثة هي الثالثة - أظهر وذلك من جهة ظهور قوله عليه السلام " ثم صلى الاخرى ولا شئ عليه ويسلم " في الركعة الموصولة. ويؤيد هذا الظهور وقوع " يسلم " بعد هذه الجملة ولو كان المراد هي الركعة المنفصلة وصلاة الاحتياط كان ينبغي أن يقدم هذه الكلمة ويقول " يسلم ثم صلى الاخرى ". اللهم إلا أن يقال: إن هذا التعبير منه عليه السلام إيهام إلى البناء على الاقل تقية، وفي أخبار الباب يوجد كثيرا مثل هذا الخبر مما ظاهرها يوهم البناء على الاقل وظاهر عليها أمارات التقية والتورية، وقد أشرنا إليها في بعض روايات باب الاستصحاب.
[ 201 ]
فقد ظهر مما ذكرنا أن هذه الرواية مجملة لا تدل على قول المشهور ولا على ما
حكي عن الفقيه وعن السيد من البناء على الاقل. ومنها: رواية العلاء قلت لابي عبد الله عليه السلام: رجل صلى ركعتين وشك في الثالثة؟ قال عليه السلام: " يبني على اليقين فإذا فرغ تشهد وقام قائما فصلى ركعة بفاتحة الكتاب " 1 بناء على أن المراد من البناء على اليقين هو البناء على الاقل لانه هو المتيقن. ولكن أنت خبير بأنه ينفى هذا الاحتمال قوله عليه السلام: " فإذا فرغ تشهد وقام قائما فصلى ركعة بفاتحة الكتاب " لان هذا ظاهر في صلاة الاحتياط أولا لتعيينه عليه السلام فاتحة الكتاب في القراءة وثانيا بقرينة قوله عليه السلام " فإذا فرغ تشهد " لظهور هذا التشهد في التشهد الثاني أي ما هو في الركعة الرابعة، فأمره عليه السلام - بعد هذا التشهد بالقيام و صلاة ركعة بفاتحة الكتاب - صريح في صلاة الاحتياط لانه لا مورد للركعة الموصولة بعد التشهد الثاني كما هو واضح. وصلاة الاحتياط ركعة واحدة في مفروض المسألة لا يلائم إلا على البناء على الاكثر. هذا مضافا إلى أن مصطلح الاخبار هو تسمية البناء على الاكثر بالبناء على اليقين، فهذه الرواية أيضا لا تدل على البناء على الاقل كما توهم. ومنها: صحيحة عبيد عن أبي عبد الله عليه السلام عن رجل لم يدر ركعتين صلى أم ثلاثا؟ قال عليه السلام: " يعيد ". قلت: أليس يقال: لا يعيد الصلاة فقيه "؟ فقال عليه السلام: " إنما ذلك في الثلاث والاربع " 2. وبعد ما عرفت من الاجماع والروايات على عدم وجوب الاعادة وعدم بطلان
(1) " وسائل الشيعة " ج 5، ص 319، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 9، ح 2، " قرب الاسناد " ص 30، ح 99. (2) " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 193، ح 760، باب أحكام السهو في الصلاة...، ح 61، " الاستبصار " ج 1، ص 375، ح 1424، باب من شك فلا يدري صلى اثنتين أو ثلاثا، ح 2، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 320، ابواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 9، ح 3.
[ 202 ]
الصلاة بالشك بين الاثنتين والثلاث إذا كان بعد إكمال السجدتين فلابد من حمل هذه الصحيحة على وقوع الشك المذكور قبل إكمال السجدتين. وأما الاستدلال للبناء على الاقل بموثقة إسحاق بن عمار عن أبي الحسن الاول عليه السلام قال: " إذا شككت فابن على اليقين " قال: قلت: هذا أصل؟ قال: " نعم " 1. و بما هو بهذا المضمون من البناء على اليقين في أخبار كثيرة، فالظاهر أنه ليس المراد من البناء على اليقين البناء على القدر المتيقن الذي هو الاقل، بل المراد اليقين بالامتثال الذي هو البناء على الاكثر والاتيان بصلاة الاحتياط إتماما لما ظنه من النقصان. وقد عبر في الاخبار عن هذا بالبناء على اليقين، كما في خبر قرب الاسناد في رجل صلى ركعتين وشك في الثالثة؟ قال: " يبني على اليقين فإذا فرغ تشهد وقام و صلى ركعة بفاتحة الكتاب ". وأنت خبير بأن قوله عليه السلام وقام وصلى ركعة بفاتحة الكتاب " المراد به صلاة الاحتياط وعدم ذكر التسليم بعد قوله عليه السلام " فإذا فرغ وتشهد " للنكتة التي نبهنا عليها وهي الايهام للتقية، وصلاة الاحتياط معناها البناء على الاكثر، فعبر عن البناء على الاكثر بالبناء على اليقين أي اليقين بالامتثال. والحاصل: أن هذه الطائفة من الروايات إن لم تكن دليلا على البناء على الاكثر فليست دليلا على البناء على الاقل. وأما سائر الروايات التي ظاهرها البناء على الاقل - على تقدير وجودها وعدم الاشكال في دلالتها - لابد من طرحها أو تأويلها بضرب من التأويل، لاعراض الاصحاب عنها بل انعقاد الاجماع على خلافها، إذ لم ينقل الخلاف إلا عن السيد و الصدوق - قدس سرهما - في الناصريات 2 وفي الفقيه 3، على إشكال في الاول، إذ
(1) " الفقيه " ج 1، ص 351، باب أحكام السهو في الصلاة، ح 1025، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 381، أبواب
الخلل الواقع في الصلاة، باب 8، ح 2. (2) " الناصريات " ضمن الجوامع الفقهية، ص 237. (3) حكى عنهما في " مدارك الاحكام " ج 4، ص 256.
[ 203 ]
المنقول عن إنتصاره موافقته للمشهور 1. وأما الصدوق فالمنقول عنه تجويز البناء على الاقل لا تعيينه مع أن المنقول عن مقنعه بطلان الصلاة ووجوب إعادتها 2. ثم إنه استدل للقول المشهور أيضا بصحيحة محمد بن مسلم قال: " إنما السهو بين الثلاث والاربع وفي الاثنتين بتلك المنزلة، ومن سها فلم يدر ثلاثا صلى أو أربعا و اعتدل شكه قال: يقوم فيتم ثم يجلس ويتشهد ويسلم ويصلي ركعتين وأربع سجدات وهو جالس، وان كان أكثر وهمه إلى الاربع تشهد وسلم ثم قرأ فاتحة الكتاب وركع وسجد ثم قرأ وسجد سجدتين ثم تشهد وسلم. وان كان أكثر و همه اثنتين نهض فصلى ركعتين وتشهد وسلم " 3. ودلالتها على المطلوب - أي البناء على الاكثر - متوقف على أن يكون المراد بقوله " فلم يدر ثلاثا صلى أو أربعا " هي الركعة التي على وشك الشروع فيها ولم يشرع بعد بأن يكون جالسا ويشك في أن الركعة التي يجب أن يقوم باتيانها هل هي الثالثة أو الرابعة؟ فيقول عليه السلام في مقام الجواب عن هذا السؤال " يقوم ويتم " أي يبني على أن هذه الركعة التي يريد أن يأتي بها هي الرابعة فيأتي بها بهذا العنوان ويجلس و يتشهد ويسلم، فهذا معنى قوله " يقوم فيتم " وبيان له. ثم يقول عليه السلام في علاج تدارك ما احتمل نقصه بعد البناء على الاكثر الذى هو الاربع في المقام " ويصلي ركعتين " إلى آخر ما قال عليه السلام، فيعالج الشك بركعتين من جلوس بدل ركعة من قيام، كما هو المذكور في سائر أخبار صلاة الاحتياط. ولكن الانصاف أن هذا خلاف ظاهر جملة " فلم يدر ثلاثا صلى أو أربعا " جدا
بل ظاهرها أن ما أتى به لم يدر أنه ثلاث أو أربع؟ فقوله عليه السلام " يقوم فيتم " ظاهره
(1) " الانتصار " ص 156. (2) " المقنع " ص 101. (3) " الكافي " ج 3، ص 352، باب السهو في الثلاث والاربع، ح 5، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 321، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 10، ح 4.
[ 204 ]
البناء على الاقل أي يبني على أن ما أتى به ثلاث فيقوم فيتم أي يأتي بالرابعة، وهذا ظاهرها جدا. لكن هذا الظاهر لا يلائم مع قوله عليه السلام فيما بعد هذه الجملة " ويصلي ركعتين " لانه بناء على أن ما أتى به ثلاث فقام واتى بالرابعة فلا يبقى مجال لصلاة الاحتياط لعدم احتمال النقيصة بناء على هذا كي يحتاط. اللهم إلا أن يقال: إن وجوب ركعتين من جلوس في المفروض حكم تعبدي و ليس من باب تدارك ما نقص، وهو بعيد إلى الغاية. وعلى كل حال إثبات البناء على الاكثر أو الاقل بهذه الرواية مشكل جدا لاجمالها. ولكن هذا الحكم - أي البناء على الاكثر في الشك بين الاثنتين والثلاث - إجماعي ومدلول للروايات العامة التي مفادها البناء على الاكثر في أي شك في أعداد الركعات في الفريضة الرباعية إذا لم يكن البناء على الاكثر موجبا لفسادها ولبطلان الصلاة، وليس في البين ما يخصصها. وقد عرفت حال سائر الاقوال من البناء على الاقل، والقول بالتخيير، والقول بالبطلان ولزوم الاعادة. هذا مضافا إلى الادلة الخاصة أي الروايات الواردة في خصوص الشك بين
الاثنتين والثلاث التي مفادها البناء على الاكثر، كحسنة زرارة التي تقدمت 1، ورواية قرب الاسناد في رجل صلى ركعتين وشك في الثالثة؟ قال: " يبني على اليقين " بناء على ما تقدم من أن المراد بالبناء على اليقين هو اليقين بالامتثال أي: البناء على الاكثر، وتدارك ما احتمل نقصه بصلاة الاحتياط. الامر الثاني: هو بيان مدرك التخيير في صلاة الاحتياط في هذه الصورة بين إتيانها
(1) سبق ذكره في ص 199، رقم (1).
[ 205 ]
ركعتين من جلوس أو ركعة من قيام فنقول: ذكروا لذلك وجوها: الاول: قوله عليه السلام في صحيحة محمد بن مسلم: " ويصلي ركعتين وأربع سجدات و هو جالس " ظاهر في أن تدارك ركعة محتمل الفوت بركعتين من جلوس. وفي رواية قرب الاسناد بركعة من قيام. ومقتضى الجمع الدلالي العرفي - الذي يرفع التعارض بينهما - هو الحمل على التخيير، وهذا ليس من التخيير الذي هو مفاد أدلة التخيير في باب تعارض الخبرين حتى يتكلم فيه أنه تخيير في المسألة الاصولية أو الفرعية، بل العرف يجمع بينهما بالتخيير فيرتفع التعارض من البين. وفيه: أنه لو كانت هاتان الروايتان واردتين في مورد الشك بين الاثنتين والثلاث لكان لهذا الكلام وجه وجيه ولكن موردهما مختلف لان مورد الصحيحة هو الشك بين الثلاث والاربع ومورد رواية قرب الاسناد هو الشك بين الاثنتين والثلاث فيحتاج إلى تنقيح المناط. وهذا وجه آخر سنتكلم فيه إن شاء الله. الثاني: أن هذا الشك بعد البناء على الثلاث والقيام للركعة الرابعة مستلزم لشك
آخر وهو أن هذه الركعة التي قام إليها - أعني الرابعة البنائية - يشك وجدانا أنها ثالثة أو رابعة، فكل شك بين الاثنتين والثلاث ينتهي بالأخرة إلى الشك بين الثلاث و الاربع، وحكم صلاة الاحتياط فيه - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - هو التخيير المذكور لمرسل جميل الآتي إن شاء الله، فمدرك التخيير في صلاة الاحتياط في الشك بين الاثنتين والثلاث هو نفس مدرك التخيير في الشك بين الثلاث والاربع. وفيه: أن ظاهر أدلة البناء على الاكثر هو باعتبار أول شك يحصل له، لا باعتبار الشكوك اللازمة لهذا الشك غاية الامر بشرط استقراره وعدم انقلابه إلى شك آخر.
[ 206 ]
وأما مسألة تتالي الشكوك الذي قاس شيخنا الاستاذ قدس سره المقام به 1 فليس من قبيل ما نحن فيه لانها من قبيل تبدل الشك الاول وانقلابه إلى شك آخر بعد زوال الشك الاول، وما نحن فيه الشك الاول موجود وهذا الشك الثاني من لوازم الشك الاول. والانصاف أن هذه المقايسة من شيخنا الاستاذ قدس سره غريب. الثالث: تنقيح المناط بمعنى العلم بأن المقصود من صلاة الاحتياط هو تدارك ما فات على تقدير فوته بعد البناء على الاكثر لكونه في الواقع هو الاقل. وقد جوز الشارع وخير المكلف بين تدارك كل ركعة بركعة من قيام مثل ما فات وبين تدارك كل ركعة بركعتين من جلوس. فإذا صرح الشارع في مورد بمثل هذا التخيير - كما أنه صرح في الشك بين الثلاث والاربع في مرسل جميل - نعلم بعدم خصوصية لذلك المورد، بل طريق تدارك ما فات أحد الامرين. ومرسل جميل عن الصادق عليه السلام هو هذا: قال فيمن لا يدري ثلاثا صلى أم أربعا و وهمه في ذلك سواء؟ قال عليه السلام: " إذا اعتدل الوهم في الثلاث والاربع فهو بالخيار إن شاء صلى ركعة وهو قائم وان شاء ركعتين وأربع سجدات وهو جالس " 2.
فبناء على هذا لا فرق في التخيير في صلاة الاحتياط بين ركعتين من جلوس و بين ركعة من قيام، بين أن يكون الشك بين الثلاث والاربع وبين أن يكون بين الاثنتين والثلاث لوحدة المناط والملاك. ولكن أنت خبير بان تنقيح المناط لا يفيد إلا في مورد القطع بالمناط والملاك و إلا لا يخرج عن كونه قياسا باطلا.
(1) " كتاب الصلاة " ج 3، ص 92. (2) " الكافي " ج 3، ص 353، باب السهو في الثلاث والاربع، ح 9، " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 184، ح 734، باب أحكام السهو في الصلاة...، ح 35، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 320، أبواب الخلل في الصلاة، باب 10، ح 2.
[ 207 ]
الرابع: الاجماع وهو العمدة، واعتمد عليه في هذا الحكم جمع كثير. ولكن أنت خبير بأن الاجماع الاصطلاحي الذي قلنا بحجيته في الاصول هو فيما إذا لم يكن للمتفقين مستند معلوم، وأما في أمثال المقام مما ذكروا له مستندات فليس من قبيل ذلك الاجماع الذي قلنا، بل لابد من الرجوع إلى نفس المدارك وقد عرفت الحال فيها فلا ينبغي ترك الاحتياط في المقام بأن يأتي بركعة من القيام، والاحوط منه أن يجمع بينهما وأحوط من ذلك إعادة الصلاة أيضا مضافا إلى ذلك الاحتياط. والوجه في هذه الاحتياطات الثلاث واضح بعد الاحاطة على ما ذكرنا. الصورة الثانية: من الصور الاربعة التي للشك البسيط والمركب في نفس الاربعة بمعنى عدم خروج طرف الاكثر عن الاربعة أي لا يكون زائدا عليها وهي عبارة عن الشك بين الثلاث والاربع في أي حال من الحالات كان في حال القيام أو الركوع أو السجود يبني على الاكثر - أي الاربع - ويتم ويسلم بعد أن تشهد ثم يأتي بصلاة الاحتياط مخيرا بين ركعتين من جلوس وبين ركعة من قيام.
أما البناء على الاكثر: فأولا لما مر من الادلة العامة كموثقات الثلاث العمار 1 الدالة على البناء على الاكثر في كل فريضة رباعية بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية فيما إذا لم يكن البناء على الاكثر موجبا للفساد والبطلان كما أنه فيما نحن فيه كذلك أي ليس موجبا للفساد والبطلان. وثانيا للاخبار الخاصة في نفس المورد أي في الشك بين الثلاث والاربع: فمنها: صحيحة عبد الرحمن بن سيابة وأبي العباس البقباق جميعا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " إذا لم تدر ثلاثا صليت أو أربعا ووقع رأيك على الثلاث فابن على الثلاث، وان وقع رأيك على الاربع فابن على الاربع فسلم وانصرف وان اعتدل
(1) سبق ذكرها في ص 183 و 184.
[ 208 ]
وهمك فانصرف وصل ركعتين وأنت جالس " الحديث 1. ومنها: مرسلة جميل عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: فيمن لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا ووهمه في ذلك سواء؟ قال: فقال عليه السلام: " إذا اعتدل الوهم في الثلاث والاربع فهو بالخيار إن شاء صلى ركعة وهو قائم وإن شاء صلى ركعتين و أربع سجدات وهو جالس " الحديث 2. ومنها: صحيحة زرارة عن أحدهما عليهما السلام في حديث قال: إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا شئ عليه ولا ينقض اليقين بالشك، ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ولكنه ينقض الشك باليقين ويتم على اليقين فيبني عليه ولا يعتد بالشك في حال من الحالات " 3. ومنها: مصحح الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال عليه السلام: " وان كنت لا تدري ثلاثا صليت أم أربعا ولم يذهب وهمك إلى شئ فسلم ثم صل ركعتين و أنت جالس تقرأ فيهما بام الكتاب، فان ذهب وهمك إلى الثلاث فقم فصل الركعة
الرابعة ولا تسجد سجدتي السهو، وإن ذهب وهمك إلى الاربع فتشهد وسلم ثم اسجد سجدتي السهو " 4. ومنها: حسن الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " إن استوى وهمه في الثلاث والاربع سلم وصلي ركعتين وأربع سجدات بفاتحة الكتاب وهو جالس يقصر
(1) " الكافي " ج 3، ص 353، باب السهو في الثلاث والاربع، ح 7، " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 184، ح 733، باب أحكام السهو في الصلاة...، ح 34، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 316، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 7، ح 1. (2) سبق تخريجه في ص 206، رقم (2). (3) " الكافي " ج 3، ص 351، باب السهو في الثلاث والاربع، ح 3، " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 186، ح 740، باب أحكام السهو في الصلاة...، ح 41، " الاستبصار " ج 1، ص 373، ح 1416، باب من شك في اثنتين و أربعة، ح 3، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 321، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 10، ح 3. (4) " الكافي " ج 3، ص 353، باب السهو في الثلاث والاربع، ح 8، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 321، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 10، ح 5.
[ 209 ]
في التشهد " 1. ومنها: موثق أبي بصير فيمن لا يدري في الثالثة هو أم في الرابعة قال عليه السلام: " فما ذهب وهمه إليه إن رأى أنه في الثالثة وفي قلبه من الرابعة شئ سلم بينه وبين نفسه ثم يصلي الركعتين يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب " 2. وروايات أخر ذكرها في الوسائل في الباب الذي عقده لهذه المسألة 3 وإن شئت فراجع. فهذه الاخبار مضافا إلى الاخبار العامة دلالتها على البناء على الاكثر في هذه الصورة من الشك - أي الشك بين الثلاث والاربع واتمام ما نقص بصلاة الاحتياط -
واضحة لا يحتاج إلى شرح وايضاح. نعم في صحيحة زرارة ربما يقال بانها تدل على البناء على الاقل لان قوله عليه السلام " قام فأضاف إليها أخرى ولا شئ عليه " ظاهرها هي الركعة الموصولة فيكون عبارة عن أنه ابن على الثلاث الذي هو الاقل في المقام وقم وات بالرابعة ولا شئ عليك. ويؤيد هذا المعنى أيضا تطبيقه عليه السلام هذا الحكم على الاستصحاب بقوله " ولا ينقض اليقين بالشك " أي اليقين بعدم الرابعة بالشك في وجوده، بل يجب عليه أن يبني على العدم ويقوم ويأتي بالرابعة وهذا هو البناء على الاقل. ولكن أنت خبير بأن ظاهر هذه الجملة وان كان كما توهمه المتوهم ولكن ظاهر
(1) " الكافي " ج 3، ص 351، باب السهو في الثلاث والاربع، ح 2، " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 185، ح 736، باب أحكام السهو في الصلاة...، ح 37، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 321، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 10، ح 7. (2) " الكافي " ج 3، ص 351، باب السهو في الثلاث والاربع، ح 1، " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 185، ح 735، باب احكام السهو في الصلاة...، ح 36، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 322، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 10، ح 7. (3) " وسائل الشيعة " ج 5، ص 320، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 10.
[ 210 ]
الجملات الآخر الست ما عدا قوله عليه السلام " ولا ينقض اليقين بالشك " أن المراد باليقين هو اليقين بالامتثال وهو أن يبني على الاكثر ثم يأتي بصلاة الاحتياط لتدارك ما فات على تقدير فوته منفصلا وإلا لو كان المراد هي الركعة الموصولة والتطبيق على الاستصحاب لما كان لهذه التأكيدات وجه، فمن هذه التأكيدات يستكشف أنه عليه السلام بصدد بيان البناء على الاكثر والاتيان بصلاة الاحتياط للتدارك منفصلا ولكن
بصورة البناء على الاقل كي لا يكون مخالفا للتقية ولرأى الجمهور. والشاهد الآخر: أنه عليه السلام في صدر هذه الصحيحة يقول في جواب قول السائل: قلت له: من لم يدر أنه في أربع هو أو ثنتين وقد أحرز الثنتين؟ قال: " يركع ركعتين و أربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب " 1. ولا شك في أن جوابه عليه السلام بقوله " يركع ركعتين " إلى آخر ظاهر بل صريح في البناء على الاكثر والاتيان بصلاة الاحتياط منفصلا وبعيد إلى الغاية أنه عليه السلام يحكم في الصدر بالبناء على الاكثر وفي الذيل بالبناء على الاقل وان كان هو في الشك بين الاثنتين والاربع وهذا في الشك بين الثلاث والاربع. ثم إن في هذه الصحيحة ناقشوا بعض المناقشات ليس مربوطا بمسألتنا وقد فصلنا الكلام فيها في كتابنا " منتهى الاصول " 2. وخلاصة الكلام: أن حمل الصحيحة على الركعة الموصولة بعيد وخلاف ظاهر الفقرات الست، وأما ما رجحنا في كتابنا " منتهى الاصول " 3 من دلالة هذه الصحيحة على حجية الاستصحاب فلا ينافي البناء على الاكثر لما ذكرنا هناك.
(1) " الكافي " ج 3، ص 351، باب السهو في الثلاث والاربع، ح 3، " الاستبصار " ج 1، ص 373، ح 1416، باب من شك في اثنتين واربعة، ح 3، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 323، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 11، ح 3. (2) " منتهى الاصول " ج 2، ص 427. (3) المصدر.
[ 211 ]
ثم إن في هذه الروايات في بعض فقراتها وجملها وان كان ما يقتضي شرحها والتكلم عنها ولكن أصل المطلب وما نحن بصدد إثباته حيث أنه معلوم - وبعبارة أخرى: دلالتها على كلا الامرين أي البناء على الاكثر ووجوب التدارك بصلاة
الاحتياط حيث أنها واضحة - فلا يهمنا بيان سائر ما فيها والاشكالات التي أوردوها عليها والجواب عنها. نعم بقى أمر: وهو أن صلاة الاحتياط هيهنا هل الواجب هو ركعة من قيام أو ركعتين من جلوس أو التخيير بينهما؟ ظاهر العماني 1 والجعفي 2 على المحكي عنهما تعيين ركعتين من جلوس 3، كما أن المحكي عن بعض القدماء هو تعيين ركعة من قيام ولكن فتوى المشهور هو التخيير وهو الصحيح. أما أولا: فلمرسلة جميل التي تقدمت حيث يقول عليه السلام فيها: " إذا اعتدل الوهم في الثلاث والاربع فهو بالخيار إن شاء صلى ركعة وهو قائم وان شاء ركعتين وأربع سجدات وهو جالس " 4. وضعفها منجبر بعمل الاصحاب. وأما ثانيا: فمن جهة أن ظاهر موثقات عمار هو أن يكون الاحتياط بركعة من قيام
(1) هو الحسن بن على بن عقيل أبو محمد العماني الحذاء، من فقهاء الشيعة في ابتداء الغيبة وهو من مشايخ جعفر بن محمد بن قولويه. تطلب ترجمته من: رجال النجاشي: ص 35. تنقيح المقال: ج 1، ص 291. معجم رجال الحديث: ج 5، ص 22. (2) هو محمد بن احمد بن ابراهيم أبو الفضل الجعفي الكوفى ثم المصرى كان من افاضل قد ماء اصحابنا الامامية ممن ادرك الغيبتين له كتب كثيرة في الفقه وغيره منها كتاب الفاخر وكتاب تفسير معاني القران و كتاب التوحيد والايمان الى غير ذلك يروى عنه الشيخ والنجاشى بواسطتين وابن قولويه بلا واسطه. " الكنى والالقاب " ج 2، ص 363. تطلب ترجمته من: رجال النجاشي: ص 264، تنقيح المقال: ج 2، ص 65، معجم رجال الحديث: ج 14، ص 311. (3) حكى عنهما الشهيد في " ذكرى الشيعة " ص 227، مضافا، حكى عن العماني في " مختلف الشيعة " ج 2 ص 384
(4) تقدم تخريجه في ص 206، رقم (2).
[ 212 ]
لان ذلك مقتضى إطلاق قوله عليه السلام: " واتم ما ظننت أنك نقصت " 1، وخصوصا قوله عليه السلام في موثقة الاخرى للعمار: " إذا سهوت فابن على الاكثر فإذا فرغت وسلمت فقم فصل ما ظننت أنك نقصت " 2. فأمره عليه السلام بالقيام وصلاة الاحتياط بعد الفراغ و التسليم للصلاة الاصلية له ظهور تام في أن صلاة الاحتياط لابد وأن تكون عن قيام. وظاهر هذه الروايات الخاصة بل صريح جميعها هو كونها ركعتين من جلوس ومقتضى الجمع الدلالي العرفي بين الطائفتين وهو التخيير، مضافا إلى ادعاء الاجماع من بعض في المسألة والشهرة المحققة لانه لا مخالف من القدماء إلا العماني والجعفي. نعم الاحوط هو الاخذ في مقام العمل بركعتين من جلوس خروجا عن خلاف العماني والجعفي، ولان الروايات الواردة في نفس المسألة أغلبها - إن لم يكن جمعيها - مفادها تعيين ركعتين من جلوس. ولو احتاط بالجمع فالاحوط تقديم ركعتين من جلوس لانه بناء على تعين ركعتين من جلوس الذي احتماله ليس بعيدا فان قدم الركعة من قيام يكون فاصلا بين الصلاة الاصلية وبين صلاة الاحتياط وهذا لا يجوز. وأما القائلون بالتخيير بين البناء على الاقل والاكثر كالصدوق 3 من القدماء و بعض المتأخرين فاستدلوا بأخبار الاستصحاب، وقالوا بأن مقتضاها هو البناء على الاقل، ومقتضى موثقات عمار وهذه الاخبار الخاصة هو البناء على الاكثر فمقتضى الجمع العرفي بين الطائفتين هو التخيير. ولكن أنت خبير بأن هذه الاخبار بل وموثقات عمار أخص من أخبار الاستصحاب فتخصص بها أخبار الاستصحاب، ولا موجب لرفع اليد عن ظهور
(1) تقدم تخريجه في ص 183 و 184. (2) تقدم تخريجه في ص 184، رقم (1). (3) حكى عنه في " مختلف الشيعة " ج 2، ص 384.
[ 213 ]
كليهما بالجمع بالتخيير. وأما استدلالهم بصحيحة زرارة فقد عرفت الحال فيها وانها لا تدل على البناء على الاقل كما توهموا، وعلى تقدير دلالتها يكون من باب التقية فلا حجية لها. الصورة الثالثة: من الصور الاربع هو الشك بين الاثنتين والاربع بعد إكمال السجدتين. فأيضا المشهور هو البناء على الاكثر - أي الاربع - والاحتياط بركعتين منفصلتين عن الصلاة الاصلية قائما. ويدل على قول المشهور: أولا: موثقات عمار الثلاث المتقدمة 1. وثانيا: الاخبار الخاصة في نفس المسألة: منها: صحيح محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام: " عن رجل صلى ركعتين فلا يدرى ركعتان هي أو أربع؟ قال عليه السلام: " يسلم ثم يقوم فيصلي ركعتين بفاتحة الكتاب فيشهد وينصرف وليس عليه شئ " 2. ومنها: صحيح الحلبي عن الصادق عليه السلام، قال عليه السلام: " إذا لم تدر اثنتين صليت أم أربعا ولم يذهب وهمك إلى شئ فسلم ثم صل ركعتين وأربع سجدات تقرأ فيهما بأم القرآن ثم تشهد وسلم، فان كنت إنما صليت ركعتين كانتا هاتان تمام الاربع وان كنت صليت الاربع كانتا هاتان نافلة " 3. ومنها: صحيح زرارة الذى تقدم ذكره حيث إن في صدره: من لم يدر في أربع هو أو ثنتين وقد أحرز الثنتين؟ قال عليه السلام: " يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة
(1) تقدم في ص 183 و 184. (2) " الاستبصار " ج 1، ص 372، ح 1314، باب من شك في اثنتين وأربعة، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 324، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 11، ح 6. (3) " الكافي " ج 3، ص 353، باب السهو في الثلاث والاربع، ح 8، " الفقيه " ج 1، ص 349، باب أحكام السهو في الصلاة، ح 1015، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 322، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 11، ح 1.
[ 214 ]
الكتاب ويتشهد ولا شئ عليه " 1. ومنها: خبر ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل لا يدري ركعتين صلى أم أربعا؟ قال عليه السلام: " يتشهد ويسلم ثم يقوم فيصلي ركعتين وأربع سجدات يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب ثم يتشهد ويسلم فان كان صلى أربعا كانت هاتان نافلة و إن كان صلى ركعتين كانت هاتان تمام الاربع، وان تكلم فليسجد سجدتي السهو " 2. فهذه الاخبار الخاصة بالشك بين الاثنتين والاربع، مضافا إلى الاخبار العامة تدل دلالة واضحة في هذه الصورة على البناء على الاكثر أي الاربع وكذلك تدل على أن صلاة الاحتياط فيها ركعتين من قيام، وهذه الاخبار كلها متفق في هذا الحكم ولذلك لا خلاف بين القائلين بالبناء على الاكثر في هذه الصورة في هذا الحكم أي في أن صلاة الاحتياط هيهنا ركعتان من قيام. نعم ذهب بعض إلى البناء على الاقل ومستندهم في ذلك أخبار ربما يشعر بذلك ولكن لابد من حملها على التقية أو طرحها من جهة مخالفتها لهذه الاخبار الصحيحة الخاصة والعامة واعراض المشهور عنها بل ربما ادعى الاجماع على خلافها مضافا إلى موافقتها للعامة ولذلك أخبار البناء على الاقل يجب أن تطرح أو يؤول. وأما صحيح محمد بن مسلم - قال: سألته عن الرجل لا يدري صلى ركعتين أم أربعا؟ قال عليه السلام: " يعيد الصلاة " 3 فلم يفت أحد بمضمونه إلا ما حكي عن
الصدوق قدس سره في المقنع 4 على كلام فيه لانه حكى عنه أيضا أنه قال: وروى أنه يسلم
(1) تقدم تخريجه في ص 210، رقم (1). (2) " الكافي " ج 3، ص 352، باب السهو في الثلاث والاربع، ح 4، " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 186، ح 739، باب أحكام السهو في الصلاة...، ح 40، " الاستبصار " ج 1، ص 372، ح 1315، باب من شك في اثنتين و أربعة، ح 2، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 323، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 11، ح 2. (3) " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 186، ح 741، باب أحكام السهو في الصلاة...، ح 2، " الاستبصار " ج 1، ص 373، ح 1417، باب من شك في اثنتين وأربعة، ح 4، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 324، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 11، ح 7. (4) " المقنع " ص 102.
[ 215 ]
فيقوم فيصلي ركعتين 1. فلعله يقول بالتخيير بين البناء على الاكثر والاعادة، بل يمكن استظهاره من هذا الكلام بناء على ما يقال: إن نقله لرواية علامة للعمل بها. وللقول بالتخيير بين البناء على الاكثر والاعادة وجه، وهو أن البناء على الاكثر على وجه الترخيص للعلاج وتصحيح العمل تخفيفا على المكلف. وحكي ذلك عن الشهيد في الذكرى وعن العلامة أيضا 2 فإذا كان الامر كذلك فالاعادة مجزية بطريق أولى. اللهم إلا أن يقال: إن حرمة قطع العمل وابطاله مانع عن جواز الاعادة لا البناء على الاكثر. ولكن يمكن أن يقال: بأنه بناء على قول المشهور - أي البناء على الاكثر - أيضا يجب أن يسلم ويخرج من الصلاة. فهذه الرواية التي مفادها الاعادة متفقة مع روايات البناء على الاكثر في الخروج عن الصلاة غاية الامر أن مفاد روايات البناء على الاكثر هو العلاج باتمام ما نقص
بصلاة الاحتياط تخفيفا على المكلف، وهذه الرواية مفادها تفريغ الذمة بالاعادة فالنتيجة هو التخيير بين الامرين، وعلى كل هذه الرواية بمعنى وجوب الاعادة تعيينا معرض عنها للجميع فلابد من تأويلها أو طرحها. الصورة الرابعة: هو الشك بين الاثنتين والثلاث والاربع بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية والصور الثلاث التي تقدمت كانت من الشك البسيط في نفس الرباعية بمعنى أن طرف الاكثر من الشك لم يكن زائدا على الاربع، وهذه الصورة تكون من الشك المركب أيضا في نفس الرباعية بالمعنى المذكور. وقد تقدم المراد من الشك المركب والبسيط ونقول:
(1) " الفقيه " ج 1، ص 349، باب أحكام السهو في الصلاة، ح 1015 و 1021، و " المقنع " ص 102. (2) " ذكرى الشيعة " ص 225.
[ 216 ]
إن هذا الشك مركب أي في الحقيقة ليس شكا واحدا بل مركب من شكين فما زاد، كما أن هذا الشك مركب من ثلاثة شكوك: الاول: بين الاثنين والاربع. والثاني: بين الاثنين والثلاث. والثالث: بين الثلاث والاربع. والحكم في هذه الصورة أيضا البناء على الاكثر - أي الاربع - وصلاة الاحتياط يقرأ ركعتين من قيام لاحتمال أن يكون الاثنين، وركعتين من جلوس لاحتمال أن يكون ثلاثا. واما احتمال أن يكون أربعا فلا يحتاج إلى تدارك لانه تام فيكون ما صلى احتياطا نافلة على هذا التقدير والاحتمالات منحصرة فيما ذكرنا. ومستند هذا الحكم - مضافا إلى ادعاء الاجماع عن الانتصار 1 والغنية 2 والروايات العامة أي الموثقات الثلاث المتقدمة للعمار 3 - الروايات الخاصة الواردة في خصوص هذه الصورة: منها: صحيح ابن أبي عمير عن الصادق عليه السلام في رجل صلى فلم يدر اثنتين صلى
أم ثلاثا أم أربعا؟ قال عليه السلام: " يقوم فيصلي ركعتين من قيام ويسلم ثم يصلي ركعتين من جلوس ويسلم، فان كانت أربع ركعات كانت الركعتان نافلة وإلا تمت الاربع " 4. ومنها: صحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن الكاظم عليه السلام: قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: رجل لا يدري اثنتين صلى أم ثلاثا أم أربعا؟ فقال: " يصلي ركعة من قيام - على بعض نسخ الفقيه - وركعتين - على بعض نسخ الاخر - ثم يصلي ركعتين وهو جالس " 5.
(1) " الانتصار " ص 156. (2) " الغنية " ضمن الجوامع الفقهية، ص 504. (3) تقدم ذكره في ص 183 و 184. (4) " الكافي " ج 3، ص 353، باب السهو في الثلاث والاربع، ح 6، " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 187، ح 742، باب أحكام السهو في الصلاة...، ح 43، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 326، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 13 ح 4. (5) " الفقيه " ج 1، ص 350، باب أحكام السهو في الصلاة، ح 1021، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 325، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 13، ح 1.
[ 217 ]
ودلالة هذه الروايات على أصل الحكم - أي البناء على الاكثر أي الاربع هاهنا - واضحة ولا خلاف فيه أيضا إلا من ابن الجنيد 1 فانه جوز البناء على الاقل وليس له دليل على هذا التخيير إلا تخيل أنه مقتضى الجمع بين الاخبار الدالة على البناء على الاقل والاخبار التي تدل على البناء على الاكثر. وأنت خبير بما في هذا الكلام وان أخبار البناء على الاقل محمولة على التقية و معرض عنها عند المشهور، بل عرفت ادعاء الاجماع عن الغنية والانتصار على خلافها في خصوص هذا المورد.
فالانصاف أن أصل الحكم - أي: البناء على الاكثر وتدارك ما احتمل فوته بصلاة الاحتياط - مما لا ينبغي أن يشك فيه. نعم وقع الخلاف في كيفية صلاة الاحتياط من حيث الكمية ومن حيث الترتيب بين الركعتين قائما والركعتين جالسا. أما الاول أي الاختلاف من حيث الكمية فقد عرفت أن المشهور هو ركعتين من قيام وركعتين من جلوس. ومقابل هذا القول ما عن الصدوق 2 ووالده 3 - قدس سرهما - وقواه الشهيد قدس سره أيضا في الذكرى 4 من حيث الاعتبار ركعة من قيام بدل ركعتين. ودليلهم على هذا القول أمران: الاول: موافقته للاعتبار ومن هذه الجهة قواه الشهيد وهو أنه كما أشرنا إليه أن الاحتمالات في هذا الشك منحصرة في الثلاثة لانه إما صلى اثنتين أو ثلاثا أو أربعا، فان صلى أربعا فصلاته من حيث عدد الركعات تامة لا يحتاج إلى التدارك وصلاة
(1) " مختلف الشيعة " ج 2، ص 382. (2) حكى عنه في " مختلف الشيعة " ج 2، ص 384. (3) " فقه الرضا " ص 118. (4) " ذكرى الشيعة " ص 226.
[ 218 ]
الاحتياط أصلا، وإن كان ما صلى ثلاثا فيكفي في التدارك ركعة واحدة قائما و لا يحتاج إلى الاثنتين قائما بل هو مضر كما هو واضح، وان كان اثنتين فمع انضمام تلك الركعة الواحدة إلى الركعتين من جلوس يكفي في تدارك الاثنتين الفائتتين لان الركعتين من جلوس تحسبان ركعة من قيام فلا يحتاج إلى ركعتين من قيام. ولكن أنت خبير بأن هذا الاعتبار لا يقاوم تلك الادلة الدالة على وجوب ركعتين
من قيام ويكون اجتهادا مقابل النص. الثاني: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج بناء على أن يكون متن الرواية ركعة من قيام لا ركعتين أي بناء على إحدى نسختي الفقيه. وفيه أولا: أن اختلاف النسخة لا يوجب تعدد الرواية كي يدخل في باب تعارض الخبرين فيشمله أخبار التخيير عند فقد المرجحات أو مطلقا بناء على حمل أخبار الترجيح بالمزايا على الاستحباب أو على وجه آخر، بل كل واحد من محتملي الصدور يسقط عن الحجية للشك في موضوع الحجة. وثانيا: الظاهر من نفس كلام الفقيه هو أن عبارة صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج " ويصلي ركعتين من قيام لا ركعة من قيام " كما في بعض النسخ وذلك من جهة أنه بعد نقله هذه الصحيحة عن عبد الرحمن بن الحجاج وفيها على النسخة المخطوطة التي عندي " يصلي ركعتين من قيام " يروى عن علي بن حمزة رواية وعن سهل بن اليسع رواية ثم يقول بلا فصل: وقد روى أنه يصلي ركعة من قيام وركعتين وهو جالس. فلو كان في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج " يصلي ركعة واحدة من قيام " على نقله لم يكن محل لان يقول: وقد روى أنه يصلي ركعه من قيام. فنقل هذه المرسلة يوجب الاطمئنان بأن ما في صحيحة عبد الرحمن هو " ويصلي ركعتين من قيام ". فيبقى مرسلة صدوق فقط وهو مع إعراض المشهور لا يصح أن تكون مستندا لفتواهم فالصحيح ما هو عليه المشهور.
[ 219 ]
وأما تقديم ركعتين من قيام على ركعتين من جلوس فهو ظاهر هذه الاخبار حيث أنه عليه السلام يقول فيها بعد الامر بصلاة ركعتين من قيام: " ثم يصلي ركعتين من جلوس " ومعلوم أن كلمة " ثم " يفيد الترتيب والبعدية. فما حكى من القول بالتخيير عن المرتضى في الانتصار 1 أو القول بوجوب تقديم
ركعتين من جلوس كما نسب القول به إلى بعض الاصحاب، لا وجه له. وأضعف من هذين القولين القول بلزوم تقديم ركعة من ركعتي القيام دون كليهما إن كان له قائل وقد نسبه الفقيه الهمداني إلى المفيد 2 - قدس سرهما -. وذلك لان الوجه الاعتباري المتوهم - وهو أن الفائت لو كانت ركعة واحدة تكون تلك الركعة الواحدة تداركا لها ولو كانت اثنتين تكون هي والركعتين من جلوس اللتان تحسبان ركعة واحدة من قيام أو مع الركعة الواحدة الاخرى من قيام تداركا للاثنتين الفائتتين - لا يأتي هاهنا. وفيه ما لا يخفى. والذي ذكرنا من أقسام الشكوك الاربعة كان من أقسام الشك في نفس الاربعة بمعنى أن طرف الاقل والاكثر كانا من نفس الاربعة وبعد إكمال السجدة الثانية من الركعة الثانية سواء كان الشك بسيطا أو مركبا على التفسير المتقدم. فهذه الشكوك الاربعة التي تقدم ذكرها قسمان من الاقسام الستة التى قسمنا الشكوك إليها أي الشك البسيط والمركب في نفس الاربعة. وأما لو كان طرف الاكثر من الشك زائدا على الاربعة فالصور كثيرة في قسميه أي البسيط والمركب بحسب إمكان الوقوع وان كان وقوعه نادرا. وقد ذكر الشهيد الثاني في شرح الالفية 3: أن جميع صور الشك إما ثنائية أي
(1) " الانتصار " ص 156. (2) " مصباح الفقيه " كتاب الصلاة، ص 568. (3) " مقاصد العلية في شرح الالفية " ص 193.
[ 220 ]
للشك طرفين فقط أو ثلاثية أي: له ثلاثة أطراف أو رباعية أي له أربع أطراف. و هذه الشكوك إما في الاربعة أو بزيادة الخامسة. فالثنائية: ست صور. وهي:
الاول: الشك بين الاثنتين والثلاث. والثاني: بين الاثنتين والاربع. والثالث: بين الاثنين والخمس. والرابع: بين الثلاث والاربع. والخامس: بين الثلاث والخمس. والسادس: بين الاربع والخمس. والثلاثية: أربع صور: الاول: بين الاثنتين والثلاث والاربع. الثاني: بين الاثنتين والثلاث والخمس. الثالث: بين الاثنتين والاربع والخمس الرابع: بين الثلاث والاربع والخمس فمجموعهما عشرة. والرباعية واحدة وهي بين الاثنتين والثلاث والاربع والخمس. فهذه كلها أحد عشر، وباعتبار حال عروض الشك في الركعة ينقسم إلى تسعة أقسام: الاول: بعد الاخذ في القيام. الثاني: بعد استيفائه وقبل الشروع في القراءة. الثالث: أثناء القراءة. الرابع: بعدها قبل الركوع. الخامس: بعد الانحناء وقبل رفع الرأس. السادس: بعد رفع الرأس وقبل السجود. السابع: في السجود قبل الفراغ من ذكره الواجب الثامن:
[ 221 ]
بعد الفراغ عن الذكر وقبل الفراغ عن نفس السجدة. التاسع: بعد الفراغ، فهذه تسعة حالات في كل ركعة يمكن عروض الشك في كل واحد منها. وحيث أن الشكوك البالغة أحد عشر التي تقدم ذكرها يمكن وقوع كل واحد منها في كل واحد من هذه الحالات التسع، فيكون مجموع صور الشك في
الرباعية تسع وتسعين حاصل من ضرب أقسام الشكوك الاحد عشر في الحالات التسع. فإذا كانت السادسة أيضا طرفا للشك فيصير مجموع الشكوك ستة وعشرين لان بزيادة السادسة طرفا للشك يزيد على عدد الشكوك خمسة عشر، فبانضمامه إلى تلك الاحد عشر يصير المجموع ستة وعشرين. ومن ضرب هذا المجموع في الحالات التسع يحصل مأتين وأربع وثلاثين صورة وكلما زاد في أطراف الشك، يزيد في عدد صور الشك وربما يبلغ إلى ما لا تحصى كثرة ولكن صرف فرض لا تحقق لاغلبها في الخارج، وبعضها وان كان ممكنا وقوعه في الخارج ولكن في غاية الشذوذ والندرة. ونحن نذكر منها خصوص الشكوك الصحيحة: أقول: خمسة منهما وردت الروايات في موردها بالخصوص على صحتها، مضافا إلى الادلة العامة قد تقدم أربعة منها وذكرناها وبقي واحد منها وهو الشك بين الاربع والخمس بعد إكمال السجدتين وحكمه البناء على الاربع ثم يتشهد ويسلم ثم بعد التسليم يسجد سجدتي السهو ويسلم بعدهما. ويدل على هذا الحكم أخبار: منها: صحيح عبد الله بن سنان عن الصادق عليه السلام قال عليه السلام: " إذا كنت لم تدري أربعا صليت أو خمسا فاسجد سجدتي السهو بعد تسليمك ثم سلم بعدهما " 1.
(1) " الكافي " ج 3، ص 355، باب من سهافي الاربع والخمس...، ح 3، " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 195، ح
[ 222 ]
ومنها صحيح الحلبي عن الصادق عليه السلام أيضا: " إذا لم تدر أربعا صليت أم خمسا أم نقصت أم زدت فتشهد وسلم واسجد سجدتين بغير ركوع ولا قراءة تتشهد فيهما تشهدا خفيفا 1.
ومنها: موثق أبي بصير عن الصادق عليه السلام أيضا قال: " إذا لم تدر خمسا صليت أم أربعا فاسجد سجدتي السهو بعد تسليمك وأنت جالس ثم سلم بعدهما " 2. ومنها: صحيحة زرارة - أو حسنته - قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر زاد أم نقص فليسجد سجدتين وهو جالس، وسماهما رسول الله صلى الله عليه وآله المرغمتين " 3 لانهما يرغمان الشيطان أي يغضبانه أو يرغمان أنفه. ودلالة هذه الاخبار على هذا الحكم في هذا الشك واضحة لا يحتاج إلى الشرح و البيان، فكل واحدة منها يدل على البناء على الاربع وإتمام الصلاة وبعد التسليم والفراغ عن الصلاة على وجوب الاتيان بسجدتي السهو وهو جالس. والظاهر من التقييد بكونه بعد الصلاة إتيانهما قبل أن يقوم من مكانه، وأما دلالتها على أن مورد هذا الحكم بعد إكمال السجدتين هو التعبير بلفظ الماضي في قوله عليه السلام " إذا لم تدر أربعا صليت أم خمسا " ولا يصدق مضي الاربع إلا برفع الرأس عن الركعة
< - 767، باب أحكام السهو في الصلاة...، ح 68، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 314، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 5، ح 2. (1) " الفقيه " ج 1، ص 350، باب أحكام السهو في الصلاة، ح 1019، " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 196، ح 772، باب أحكام السهو في الصلاة...، ح 73، " الاستبصار " ج 1، ص 380، ح 1441، باب التسبيح و التشهد في سجدتي السهو، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 327، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 14، ح 4. (2) " الكافي " ج 3، ص 355، باب من سهافي الاربع والخمس...، ح 6، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 326، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 14، ح 3. (3) " الكافي " ج 3، ص 354، باب من سهافى الاربع والخمس...، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 326، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 14، ح 2.
[ 223 ]
الرابعة، وهذا واضح جدا. نعم ظاهر صحيحة زرارة أو حسنته وكذلك ظاهر صحيح الحلبي عدم اختصاص هذا الحكم بهذا الشك، بل يأتي في كل مورد احتمل الزيادة على الاربع أو النقيصة عنه فلابد من تقييدها بالادلة الخاصة الواردة في مورد كل شك بالنسبة إلى النقيصة وبأدلة البطلان بالنسبة إلى الزيادة على الخمسة. وأما الاربعة الهدمية من الشكوك الصحيحة الباقية فلم يرد فيها شئ من الروايات، وانما يستدل على صحتها بالقواعد العامة. نعم زاد شيخنا الاستاذ قدس سره صورة أخرى على الشكوك المنصوصة فيصير مجموع الشكوك المنصوصة عنده ستة وهي عبارة عن الشك بين الاربع والخمس والست بعد إكمال السجدتين 1. واستدل على صحته بمفهوم خبر زيد الشحام وفيه: سألته عن رجل صلى العصر ست ركعات أو خمس ركعات قال عليه السلام: " إن استيقن أنه صلى خمسا أو ستا فليعد " 2. ومفهومه أنه إذا لم يستيقن أنه صلى خمسا أو ستا فلا تجب الاعادة. وأما أن مورده الشك بعد إكمال السجدتين، فلما تقدم من التعبير بلفظ الماضي. وفيه: أن الاخذ بظاهر هذه الرواية مستلزم للقول بصحة الصلاة التي يشك فيها بين الاربع والست بدون أن يأتي بسجدتي السهو بعد التسليم وهو بعيد. وأما الشكوك الهدمية الاربعة التي قالوا فيها بهدم القيام كي يرجع إلى الشكوك المنصوصة فيعمل بها عملها وهي الشك بين الاربع والخمس حال القيام، والشك بين الثلاث والخمس حال القيام، والشك بين الثلاث والاربع والخمس حال القيام، و
(1) " كتاب الصلاة " ج 3، ص 115. (2) " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 352، ح 1461، باب أحكام السهو، ح 49، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 311،
أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 3، ج 17.
[ 224 ]
الشك بين الخمس والست حال القيام. فهذه الاربعة وان كانت ترجع إلى الشكوك المنصوصة بعد هدم القيام فيها إلا أن الشأن في هدم القيام وانه ما الوجه فيها؟ والظاهر أن الهدم فيها بملاحظة كون الركعة التي فيها محكومة بالزيادة، فقبل أن يدخل في الركن - كي لا تتحقق زيادة الركن وهو الركوع والقيام المتصل بالركوع الذي لا يحصل إلا بالدخول في الركوع - لو التفت إلى هذه الزيادة يجب عليه أن يهدم هذا القيام ويتم الصلاة على عدد الصحيح الذي هو الاربع. والدليل على ذلك: أنه لو علم تفصيلا بأن الركعة التي هو فيها هي الخامسة، فلو كان علمه هذا بعد الدخول في الركوع تكون صلاته هذه باطلة لزيادة ركنين: أحدهما الركوع والثانى: قيام المتصل بالركوع. وأما لو كان حصول علمه قبل الدخول في الركوع يجب هدم قيامه واتمام صلاته لزيادة هذا القيام وهو زيادة غير ركنية عن نسيان فلا تكون مضرة. فإذا كان الامر في مورد العلم الوجداني كذلك يقينا فكذلك الامر فيما إذا حكم الشارع بالزيادة لوحدة الملاك فيهما وهى زيادة الركعة التي بيده. وأما كونها محكومة بالزيادة شرعا فمن جهة أن الشك في أن ما بيده هي الخامسة مستلزم للشك في أن الركعة السابقة على هذه التي بيده هل هي الثالثة أو الرابعة؟ فهيهنا في الحقيقة شكان بالفعل: أحدهما: بالنسبة إلى ما بيده وهي بين الرابعة والخامسة. والثاني: بالنسبة إلى سابقة هذه الركعة وهي بين الثلاث والاربع. والشك الاول وإن لم يكن فيه حكم إذا كان في حال القيام، إذ ليس فيه نص، ولكن الشك الثاني أي الشك بين الثلاث والاربع من الشكوك المنصوصة ومشمول
للنصوص العامة. مضافا إلى أن فيه نص خاص، ومفاد تلك النصوص العامة هو البناء على الاكثر فإذا بنى على الاكثر فقهرا ما بيده يكون خارجا عن الاربعة و
[ 225 ]
يكون زائدا فيجب هدمه، كما إذا علم وجدانا بانها زائدة. إذا عرفت هذا فنقول: أما بالنسبة إلى ثلاث صور من الشكوك الهدمية فالامر في كمال الوضوح، وهي الشك بين الاربع والخمس في حال القيام، والشك بين الثلاث والخمس في حال القيام، والشك بين الثلاث والاربع والخمس في حال القيام، وأما الصورة الرابعة، أي الشك بين الخمس والست في حال القيام فيعلم تفصيلا بزيادة هذا القيام سواء أكان خمسا أو ستا فيجب هدم القيام والجلوس، فيرجع شكه إلى أن ما صلى هل هو أربع أو خمس؟ وهذا هو الشك بين الاربع والخمس بعد إكمال السجدتين وهو من الشكوك المنصوصة وحكمه البناء على الاربع وأن يسجد سجدتي السهو. وبعبارة أخرى: هاهنا شكوك فعلية موجودة قبل الهدم لا أنها تحصل بالهدم حتى تقول ما هو مجوز الهدم؟ كي يرجع الشك إلى الشكوك المنصوصة، فليس تلك الشكوك مسببة عن الهدم ومعلولة له بل الامر بالعكس أي يكون الهدم معلولا لتلك الشكوك لانه بواسطة حكم تلك الشكوك يحكم بزيادة ذلك القيام وخروجه عن الصلاة وواقعا في وسط الصلاة فيجب هدمه. فهذه الشكوك الاربعة في الحقيقة ترجع إلى الشكوك المنصوصة. ثم لا يخفى أن ما ذكرنا من رجوع هذه الشكوك الاربعة الهدمية إلى الشكوك المنصوصة ليس معناه انقلاب الشك غير المنصوص إلى المنصوص كما يوهمه ظاهر عبارة الرجوع، بل المراد ما ذكرنا سابقا من أن الشك المنصوص موجود قبل الهدم و
هو بحكمه موجب للهدم. إن قلت: إن ما ذكرت من أن البناء على الاكثر في هذه الشكوك الهدمية الاربعة بالنسبة إلى الشك السابق على هذا الشك الاخير موجب للحكم بزيادة هذه الركعة
[ 226 ]
الاخيرة التي بيده وبنيت جواز الهدم على هذا، هو من الاصل المثبت الذى ليس بحجة لان موضوع البناء على الاكثر هو الشك في عدد الركعات، فالخطاب متوجه إلى الشاك وهذا أي أخذ الشك في الموضوع وكون الخطاب إلى الشاك هو المراد بالاصل العملي. قلنا أولا: إنه ربما يقال بأنه ليس بأصل عملي كي يكون هذا الحكم ظاهريا بل هو حكم واقعي جعل للشاك في عدد الركعات ولذلك لو بنى على الاكثر واتى بصلاة الاحتياط ثم تبين الخطأ وان ما أتى به كان هو الاقل لا تجب الاعادة. وإن كانت هذه المقالة لا تخلو من نظر واشكال وسيأتي ما هو التحقيق في الامر الثالث. وثانيا: ليس الحكم بزيادة الركعة المشكوكة من اللوازم العقلية للبناء على الاكثر بل معنى البناء على الاربع الذي هو الاكثر في المسائل المذكورة أن ركعات الصلاة تمت وليس ما وراء هذه الركعة المبنية على كونها رابعة ركعة صلاتية، وهذه عبارة أخرى عن زيادتها لا أن زيادتها من لوازم البناء على الاكثر. وينبغى التنبيه على أمور الامر الاول: في أنه إذا كان الشك بين التمام والزيادة من الست فما فوق كالشك بين الاربع والست أو السبع بعد الاكمال فهل يمكن تصحيحه باستصحاب عدم الزيادة ويجري الاستصحاب أم لا لخلل فيه؟ فنقول: قد يقال في تقريب عدم جريان الاستصحاب: أن الشارع ألغى جريان
الاستصحاب في باب عدد الركعات. أما في الاوليين فلجهة حكمه بلزوم كون الاوليين محفوظا وسالما بقوله: " إذا
[ 227 ]
سلمت الركعتان الاوليان سلمت الصلاة " 1 وبالاستصحاب لا يمكن إثبات عنوان الحفظ والسلامة إلا بناء على القول بالاصل المثبت لان السلامة والحفظ من اللوازم العقلية لعدم الركعة المشكوكة، وأما في الاخيرتين فلعدم إعتناء الشارع بالاستصحاب وحكمه بالبناء على الاكثر على خلاف الاستصحاب. وأما في الزائد على الاخيرتين فلان الشارع لما جعل البناء على الاكثر في الاخيرتين علمنا أن احتمال الزيادة في الصلاة مضر بالصحة ولذلك الغي الاستصحاب، لان في الاستصحاب لا محالة احتمال الزيادة موجود في أي صورة من الصور، ولذا حكم بالبناء على الاكثر وسد احتمال الزيادة بهذا البناء، وسد احتمال النقيصة بصلاة الاحتياط. وحاصل الكلام: أن احتمال الزيادة والنقيصة كلاهما موجب للاعادة للشك في الامتثال وتحصيل الملاك، فمن جهة سد احتمال الزيادة سد باب الاستصحاب، وسد احتمال النقيصة بجعل صلاة الاحتياط، فمناط سد باب الاستصحاب في الاخيرتين هو بعينه موجود في جميع صور الشك فيما إذا كان أحد طرفي الشك هو احتمال الزيادة على الاربعة غاية الامر في خصوص الشك بين الاربع والخمس بعد إكمال السجدتين جاء الدليل على الصحة وعدم مضرية احتمال الزيادة في هذا المورد بالخصوص وتداركه بسجدتي السهو وأما فيما عداه فالاشكال بحاله فلابد من الاعادة إلا في بعض الصور الذى يمكن استظهار صحته من مفهوم رواية زيد الشحام وقد تقدم تفصيله 2.
وفيه: أن كون مناط إلغاء الشارع للاستصحاب في الركعتين هو خصوص احتمال
1 - " الفقيه " ج 1، ص 346، باب أحكام السهو في الصلاة، ح 1010، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 299، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 1، ح 3. 2 - تقدم في ص 223، رقم (2).
[ 228 ]
الزيادة غير معلوم وتنقيح المناط ظنا قياس باطل عندنا. والشاهد على عدم كون المناط هو احتمال الزيادة هو أنه حكم في بعض الموارد بالبناء على الاربع مع احتمال الزيادة كما في الشك بين الاربع والخمس مع احتمال كون الركعات زائدة على الاربع وكذلك في الشك بين الاربع والخمس والست بناء على الاخذ بمفهوم خبر زيد الشحام، وأيضا فيما إذا شك في إتيان الركوع مع عدم تجاوز محله حكم بالبناء على العدم، مع أنه لو أتى به بعد هذا العدم يحتمل زيادة الركوع. ولا فرق بين زيادة الركوع وبين زيادة الركعة لو كان احتمال زيادتها مضرا، إذ لو كانت زيادة الركعة مضرة يكون باعتبار زيادة الركن أي الركوع فيها، وإلا فزيادة أجزائها غير الركنية عن غير عمد فليس بمضر قطعا وقد يقال بعدم جريان الاستصحاب لانه لا أثر له إلا بناء على اعتبار الاصل المثبت وهو مما نقحنا بطلانه في كتابنا " منتهى الاصول " 1. بيان ذلك: أنه إما أن يستصحب رابعية هذه الركعة التي بيده - التي هي مورد الشك بين كونها رابعة أو أزيد فهذه ليست لها حالة سابقة متيقنة لانها من أول وجودها مشكوك الرباعية - واما أن يستصحب عدم وجود الزائد على الاربعة. فهذه الاستصحاب وان كان له مجرى من حيث تمامية أركانه من اليقين السابق والشك اللاحق ولكن إن كان المراد منه صرف عدم تحقق الزائد على الاربع فلا أثر له لانه ليس لعدمه أثر شرعي، وإن كان المراد منه إثبات أن ما بيده رابعة فيتشهد و يسلم فهذا مثبت لان كون ما بيده رابعة من اللوازم العقلية لعدم تحقق الزائد على
الاربع. والحاصل: أنه وان يعلم بالوجدان أن الاربع لا بشرط عن وجود ركعة بعده وعدم وجودها موجود ولكن الاثر للاربع بشرط لا وانطباقه على هذه الركعة التي
(1) " منتهى الاصول " ج 2، ص 477.
[ 229 ]
بيده مشكوك. وباستصحاب عدم الزائد على الاربع وان كان يثبت أنه أي: الرابع بشرط لا هو هذه الاخير لكنه مثبت لان كون الاخيرة كذلك من اللوازم العقلية لعدم الزائد على الاربع لا من الآثار الشرعية له كما هو واضح. فظهر مما ذكرنا بطلان الصلاة في جميع صور احتمال الزيادة على الاربع ولزوم إعادتها إلا في ما إذا جاء دليل بالخصوص على الصحة، كما أنه جاء في الشك بين الاربع والخمس بعد إكمال السجدتين، وادعى في الشك بين الاربع والخمس والست بعد إكمال السجدتين بمفهوم رواية زيد الشحام. وأما بعض صور الشك في الزيادة واحتمال السادس إذا كان الشك في حال القيام إن قلنا بصحتها فذلك من جهة هدم القيام ورجوع الشك إلى الشكوك المنصوصة كما مر تفصيلا، وليس من جهة استصحاب عدم الزائد. وقد أجاب عن هذا الاشكال شيخنا الاستاذ قدس سره بأن أجزاء الصلاة المترتبة في الوجود يجب أن يوجد الجزء التالي بعد تحقق الجزء السابق عليه وعدم وجود الجزء اللاحق، فالركعة الرابعة يجب أن توجد بعد تحقق الثالثة وعدم وجود الخامسة ولا يلزم أن تتصف الركعة بالثالثة. ففي المقام يجب التشهد والتسليم بعد إحراز وجود الرابعة وعدم وجود الخامسة، ولا يلزم أن يتصف الركعة التي بعد رفع الرأس عن سجدتها الثانية يتشهد ويسلم بكونها رابعة بل يكفي في صحة إتيان التشهد والتسليم إحراز وجود الرابعة واحراز
عدم الخامسة، وفي المفروض إحراز وجود الرابعة بالواجدان وإحراز عدم الخامسة بالاصل 1 هذا ما ذكره قدس سره. ولكن ظاهر أدلة التشهد والتسليم في الرباعية هو أن يتشهد في الرابعة وهذا يقتضي أن يكون التشهد الثاني في الركعة التي أحرز أنها رابعة والتشهد الاول في
1 - " كتاب الصلاة " ج 3، ص 106.
[ 230 ]
الركعة التي أحرز أنها الثانية ففي رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال عليه السلام: " إذا جلست في الركعة الثانية فقل بسم الله " إلى آخر ما قال عليه السلام إلى أن قال عليه السلام: " فإذا جلست في الرابعة قلت بسم الله وبالله " إلى آخر ما قال عليه السلام 1 فما ذكره قدس سره لا يخلو من غرابة. وأغرب منه قوله بأن استصحاب عدم الزيادة وان كان تاما من ناحية تمامية أركانه وتأثيره في صحة الصلاة التي يشك في زيادتها إلا أنه لا يجري لانصراف أدلة الاستصحاب عن أمثال هذه الموارد. الامر الثاني: في أنه يجب التروي والفحص عند الشك في عدد الركعات أم لا بل يبني على الاكثر بمحض حدوث الشك؟ فنقول: التروي والفحص عما في خزانة النفس قد يكون من جهة استعلام حال الشك وانه يدوم أو يزول - وبعبارة أخرى: شك مستقر وثابت أم ليس له قرار و ثبات بل يزول - وقد يكون لاستعلام حال الترديد الذي في خزانة النفس وانه هل لاحد طرفي المحتمل ترجيح كي يكون ظنا أم لا حتى يكون شكا مقابل الظن والوهم. فان كان بمعنى الاول: فالظاهر عدم لزومه في الموارد التي حكم الشارع بالبناء على الاكثر وذلك من جهة أن موضوع هذا الحكم هو الشك في الركعتين الاخيرتين من
الرباعية، فمتى تحقق موضوعه يتحقق ذلك الحكم نعم لابد من الصدق العرفي، ولا يبعد أن يكون التروي واجبا إذا كان بأدنى التفات والرجوع إلى خزانة النفس يتبين الحال ولعله لعدم صدق الشك حينئذ عرفا. وأما التروي بالمعنى الثاني: فالظاهر لزومه بناء على أن الظن حجة وامارة في
(1) " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 99، ح 373، باب كيفية الصلاة وصفتها..، ح 141، " وسائل الشيعة " ج 4، ص 989، أبواب التشهد، باب 3، ح 2.
[ 231 ]
معرفة عدد الركعات وذلك من جهة أن الظن والشك بناء على هذا مختلفان موضوعا وحكما، أما موضوعا فواضح وأما حكما فلان حكم الشك هو البناء على الاكثر و حكم الظن هو الجري على طبق المظنون وعدم الاعتناء بالاحتمال المرجوح ولا فرق في لزوم الجري على طبق المظنون أن يكون هو الاقل أو يكون هو الاكثر. فلابد أن يفحص عما في خزانة نفسه ويفتش حتى يتبين الحال وان وظيفته هل هو البناء على الاكثر أو الجري على طبق المظنون؟ سواء أكان هو الاقل أو الاكثر لانه لا معنى لترتب الحكم بدون معرفة الموضوع، هذا في الركعتين الاخيرتين وأما في الركعتين الاوليين حيث أن الشك فيهما مبطل. ومن المعلوم أن مبطليته ليس بمحض حدوثه بل يكون مراعى ببقائه فان زال وانقلب إلى العلم أو إلى الظن - بناء على حجية الظن في عدد الركعات حتى في الاوليين - فليست الصلاة باطلة، فالشك في زواله يكون شكا في القدرة على الاتمام، كما أنه لو علم بزواله يعلم بانه قادر على الاتمام فيمضي في صلاته، وكما أنه لو كان عالما بعدم الزوال فتكون باطلة ولا يجب الفحص بل لا معنى للفحص مع العلم في الصورتين أي في كلتا صورتي العلم بالزوال والعلم بعدم الزوال. وأما في صورة عدم العلم بكلا الامرين واحتماله للزوال وعدمه فهو شاك في أنه
قادر على الاتمام أم لا وفي باب الشك في القدرة لا بد وأن يشتغل بالمأمور به و يفخص حتى يتبين الحال وهذا حكم العقل في باب الشك في القدرة. فظهر مما ذكرنا أنه فرق في لزوم التروي وعدمه بين الركعتين الاوليين والركعتين الاخيرتين، وان للتروي معنيين، وانه لازم بمقدار الصدق العرفي وهو أن لا يكون سريع الزوال بل يحتاج في الصدق العرفي إلى استقراره وان التروي بمعنى الفحص عن أن ما في خزانة نفسه هل هو ظن أو شك هو لازم إلى أن يحصل له أحد الامرين أي كونه ظنا أو شكا ليرتب عليه حكمه من البناء على الاكثر أو الجري على طبق
[ 232 ]
المظنون كان المظنون هو الاقل أو كان هو الاكثر. الامر الثالث: في أن البناء على الاكثر حكم ظاهري موضوعه الشك في عدد الركعات في الفريضة الرباعية بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية وقد حققنا في مبحث الاجزاء أن الحكم الظاهري امتثاله واتيان متعلقه لا يكون مجزيا عن الواقع لو انكشف الخلاف، وان القول بالاجزاء ملازم مع القول بالتصويب، ففي المقام بعد البناء على الاكثر لو تبين الخلاف وعلم أن ما صلى كان هو الاقل فمقتضى القاعدة هو وجوب الاعادة وعدم الاعتناء بما صلى مع البناء على الاكثر. ولكن فتوى المشهور هو أنه بعد البناء على الاكثر واتمام الصلاة والاتيان بصلاة الاحتياط لا تجب الاعادة، مع أن جلهم قائلون بعدم إجزاء الامر الظاهري. والسر في ذلك: هو أن الشارع لم يكتف بصرف البناء على الاكثر بل أمر بعد الاتمام بصلاة الاحتياط لتكون تداركا لما فات على تقدير كون ما صلى هو الاقل. وبعبارة أخرى: هاهنا حكمان: أحدهما البناء على الاكثر، والثاني: وجوب الاتيان بصلاة الاحتياط وليس الثاني من مقتضيات الاول، بل مقتضى الاول هو إتمام الصلاة مع البناء على الاكثر وعدم وجوب شئ آخر عليه.
فالحكم الثاني هو حكم مستقل لتتميم ما ظنه من النقص، فعدم وجوب الاعادة مستند إلى امتثال هذا الحكم أي الاتيان بصلاة الاحتياط لا إلى البناء على الاكثر ولذلك لو علم قبل الاتيان بصلاة الاحتياط أن الواقع هو الاكثر فلا تجب صلاة الاحتياط قطعا، كما أنه لو علم قبل السلام بأن ما صلى هو الاقل يجب عليه أن يأتي بالمقدار الذي يحتمل نقصه متصلة. وأما لو علم بالنقص وان ما صلى هو الاقل بعد السلام وقبل الاتيان بصلاة الاحتياط هل تجب عليه الاعادة أو له أن يكتفي بصلاة الاحتياط أو يأتي بالنقيصة متصلة؟ لان السلام وقع في غير محله فليس بمخرج فيسجد سجدتي السهو للسلام
[ 233 ]
الواقع في غير محله بعد إتمام الصلاة. هذا فيما إذا لم يصدر منه بعد ذلك السلام الواقع في غير محله ما هو المنافي عمدا وسهوا وإلا يتعين عليه الاعادة. والظاهر من هذه الاحتمالات هو الاحتمال الاخير أي لزوم الاتيان بالنقيصة متصلة وسجدتي السهو للسلام الواقع في غير محله فيما إذا لم يصدر منه ما هو المنافي عمدا أو سهوا وذلك من جهة أن حكم البناء على الاكثر موضوعه الشك، فإذا زال الشك يزول حكمه ويجب عليه العمل على طبق علمه وهو كما ذكرنا عبارة عن إتيان مقدار النقيصة متصلة وسجدتي السهو للسلام الواقع في غير محله. فظهر مما ذكرنا أن الاكتفاء بصلاة الاحتياط لو انكشف الخلاف بعد البناء على الاكثر وبعد صلاة الاحتياط ليس من جهة أن امتثال الامر الظاهري مفيد للاجزاء بل يكون من جهة أن الشارع جعل صلاة الاحتياط متمما لما نقص على تقدير نقصانه، وإلا فهي نافلة. الامر الرابع: لو شك المصلي جالسا لعجزه عن القيام فلا ينبغي أن يشك في شمول عمومات البناء على الاكثر له، وانما الكلام في أنه من كان وظيفته التخيير بين ركعتين جالسا أو ركعة من قيام فهذا التخيير في حقه لا مورد له لعجزه عن أحد طرفي
التخيير أي عن إتيان ركعة قائما فهل يتعين عليه الطرف الآخر - أي الركعتين من جلوس كما هو قانون باب التخيير - أو ركعة جالسا؟ لان القيام ساقط في حقه. والظاهر هو الثاني لان المقام ليس من قبيل الواجبات التخييرية بالاصل لوجود الملاك المطلوب في كل واحد من الطرفين واستوائهما في ذلك كي يقال إن تعذر أحد الطرفين فيتعين الطرف الآخر بل المقصود الاصلي تدارك الركعة الفائتة على تقدير فوتها وتدارك تلك الركعة بشكلين: أحدهما مثلها ركعة من قيام والثاني: ركعتين من جلوس، وكان الشارع الاقدس جعل زيادة كمية الركعة في مقام التدارك بدلا عن نقصان كيفيتها. - وان شئت قلت: بدلا عن تبدل وضعها - كما أن جعله في صلاة
[ 234 ]
النافلة أيضا كذلك أي جعل ركعتين جالسا بدل ركعة قائما. ومعلوم أن هذا إنما يجري فيما إذا كان المبدل منه ركعة قائما وفيما نحن فيه ليس الامر كذلك لان الفائتة وما هو المبدل منه ليس إلا ركعة جالسا، فبدلها أيضا يكون مثلها ركعة واحدة جالسا ولا وجه للتعدد. نعم لو قدر على القيام قبل الاتيان بصلاة الاحتياط وبعد السلام فعليه أن يأتي بها قائما متصلة كما تقدم شرحه مفصلا. الامر الخامس: في أنه هل يجوز في الشكوك الصحيحة أن يرفع اليد عن صلاته و يستأنف من جديد أم لا بل يجب البناء على الاكثر والاتيان بصلاة الاحتياط؟ ربما يقال بعدم جواز القطع والاستئناف لحرمة القطع. وبناء على هذا هل يمكن الفرق في حرمة القطع بين القطع حال عروض الشك و في الاثناء وبين القطع بعد التسليم أم لا؟ أقول: أما القطع والاستئناف قبل التسليم فالظاهر عدم جوازه لادعاء الاجماع على الحرمة، وأما بعد التسليم وقبل صلاة الاحتياط فان قلنا إن التسليم الواقع في
غير محله ليس بمخرج ولو كان في محله البنائي فيكون مثل القطع في الاثناء لانه على تقدير النقصان وكون صلاة الاحتياط جزء للصلاة الاصلي يكون بعد في الصلاة ولكن يمكن أن يقال: إن كونه قطعا مشكوك فتجري البرائة. والحاصل أن الحكم بحرمة القطع بعد التسليم مشكل جدا. وأما صحة الصلاة الاولى والثانية أو بطلانهما لو استأنف في الاثناء فالظاهر بطلان الصلاة الاولى لانه بعد استئنافها إما أن يأتي بصلاة الاحتياط أم لا، فان لم يأت فتكون الصلاة مشكوك التمام ومعلوم البطلان وأما إن أتى بصلاة الاحتياط بعد الصلاة المستأنفة فلفوات الموالات التي شرط في صحة الصلاة.
[ 235 ]
وأما الصلاة المستأنفة فقيل في وجه بطلانها وجوه: [ الوجه ] الاول: أنها علة لابطال الاولى وهو حرام، وعلة الحرام حرام فتكون باطلة لتعلق النهي بنفس العبادة، وقد تقرر في محله بطلان مثل هذه العبادة المنهى عن نفسها. وفيه: أن هذا مبني على مقدمتين وهما: أولا: أن يكون الابطال حراما ولو كان بعد التسليم باعتبار كون صلاة الاحتياط جزء من الصلاة. وفيه نظر واضح فلو استأنف بعد التسليم وقبل صلاة الاحتياط لا يأتي هذا الوجه. وثانيا: أن يكون الاستئناف علة تامة أو كان هو جزء الاخير من العلة التامة للحرام الذي هو الابطال. وفيه أيضا نظر لان الابطال قد يكون لعدم المقتضى للاتمام أي إرادة الاتمام فالابطال مستند إلى عدم إرادة الاتمام لا إلى وجود ضده أي الصلاة المستأنفة.
الوجه الثاني: سقوط الامر عن الاجزاء التي أتى بها، وإلا يكون من قبيل طلب الحاصل فتكون الصلاة المستأنفة بالنسبة إلى تلك الاجزاء بدون الامر فلا تقع عبادة. وفيه: أن الامر بالطبيعة باق ما لم يأت بالمجموع، مضافا إلى ما قلنا من جواز تبديل الامتثال بامتثال آخر. الوجه الثالث: ظهور أدلة الشكوك الصحيحة في أن وظيفة الشاك هو العمل بالوظيفة المعينة من البناء على الاكثر والاتيان بصلاة الاحتياط بعد التسليم وليس له العمل بغير هذه الوظيفة.
[ 236 ]
وفيه: أن مرجع هذا الوجه إلى أن التكليف الواقعي انقلب في حق الشاك من الاربعة الموصولة إلى الاربعة الملفقة من الثلاثة أو الاثنتين الموصولة وصلاة الاحتياط، وهذا لا يخلو من غرابة، إذ الوظيفة المجعولة للشاك علاج للعلم باتيان الاربعة الواقعية بلا زيادة ولا نقصان، من جهة التسهيل على المكلف الشاك لئلا يقع في كلفة الاعادة، لا أن التكليف الواقعي انقلب إلى هذه الوظيفة كما توهم. والحاصل: أن الصلاة المستأنفة خصوصا بعد السلام وقبل صلاة الاحتياط لا وجه لبطلانها، وبناء على هذا لا يبقى وجه لاتيان صلاة الاحتياط بعدها. هذا كله فيما لو استأنف قبل إتيان المنافي، أما لو استأنف بعد إتيان ما هو المنافي - سواء أكان في الاثناء أو بعد التسليم ولكن قبل صلاة الاحتياط - فلا وجه لبطلان المستأنفة بل يجب الاستئناف إن كان وجود المنافي في الاثناء، بل وكذلك إن قلنا بلزوم عدم وجود المنافي بين الصلاة المبنية وصلاة الاحتياط والوجه واضح. الامر السادس: في أنه لو غفل عن شكه واستمر في الصلاة واتمها فتبين مطابقة ما أتى به للواقع فهذا إما في موارد الشكوك الصحيحة أو في موارد الشكوك الباطلة.
فان كان من قبيل الاول - فبناء على ما قلنا في الامر السابق من عدم انقلاب التكليف الواقعي إلى ما هو وظيفة الشاك غاية الامر أن هذه الوظيفة التي عينت للشاك علاج في مقام امتثال ذلك التكليف الواقعي بأنه أتى به، وفي المفروض قاطع بأنه أتى به بدون أن يعمل بوظيفة الشاك بدون أي خلل في المأتى به وبعبارة أخرى أوجد المأمور به تام الاجزاء والشرائط وفاقدا لجميع الموانع متقربا - فيسقط الامر ويحصل الامتثال القطعي. وأما إن كان من الشكوك الباطلة فمرجع الامر إلى أنه هل حدوث الشك فيها مثل حدوث الحدث أو سائر القواطع المبطل؟ أو معنى البطلان فيها أنه لا تشملها أدلة العلاج من البناء على الاكثر وسجدتي السهو وصلاة الاحتياط؟
[ 237 ]
فان كان الاول فواضح أنه لا يمكن القول بصحتها ولو انكشف بعد الاتمام أن ما أتى به تام المطابقة مع الواقع. ولكن هذا المعنى واضح الفساد نعم الذي يمكن أن يقال: إنه إذا اعتبر في صحتها الحفظ واليقين من أولها إلى آخرها، فإذا حصل الشك يفقد الشرط فتكون باطلة بمحض حدوث الشك وتجب الاعادة، وأما إن كانت جهة البطلان عدم شمول أدلة العلاج لها فتكون صحيحة في المفروض لانها صحيحة وتام الاجزاء والشرائط. وهذه الاحتمالات في مقام الثبوت. وأما في مقام الاثبات: فالظاهر أن الشكوك الباطلة على قسمين: فالثنائية والثلاثية والاوليين من الثلاثية والرباعية أعتبر فيها الحفظ واليقين في جميع الحالات ولذلك بمحض حدوث الشك ووجوده عرفا - أي بعد استقراره - تكون باطلة وحكم بالاعادة كما في صحيحة ابن أبي يعفور: " إذا شككت فلم تدر أفي ثلاث أنت أم في أثنتين أم في واحدة أم في أربع فأعد ولا تمض على الشك " 1.
وأما القسم الآخر: فالظاهر أن بطلانها من جهة عدم شمول أخبار العلاج لها، كالشك بين الاربع وما فوق الست حيث أن بطلانها من جهة عدم العلاج. ففي مثل هذا القسم لا وجه للبطلان بعد تبين أنها مطابق للواقع ولا يحتاج إلى العلاج حتى تقول لا تشملها أخبار العلاج. فالحق هو التفصيل بين هذين القسمين من الشكوك الباطلة. الامر السابع: المسافر في أحد أماكن التخيير لو نوى قصرا فشك بين الاثنتين والثلاث مثلا أو أحد الشكوك الصحيحة الاخر لو كانت الصلاة رباعية فحيث أن
(1) - " الكافي " ج 3، ص 358، باب من شك في صلاته كلها..، ح 3، " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 187، ح 743، باب أحكام السهو في الصلاة، ح 44، " الاستبصار " ج 1، ص 373، ح 1418، باب من شك فلم يدر صلى ركعة أو...، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 328، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 15، ح 2.
[ 238 ]
الشك في الصلاة الثنائية مبطل فهل له أن يعدل بعد حدوث الشك إلى الاتمام فيبني على الاكثر ويتمم صلاته ويأتي بعد أن أتم بصلاة الاحتياط فيكون قد عالج بذلك شكه وصحح صلاته أم لا وليس له ذلك؟ وعلى تقدير أن يكون له ذلك فهل يجب عليه العدول أم لا بل يجوز فقط وهو مخير بين العدول ورفع اليد عن صلاته لبطلانه على تقدير عدم العدول؟ فنقول: بعد الفراغ عن اشتراط العدول بأن يكون المعدول عنه صلاة صحيحة بحيث لو لا العدول وكان يتم تلك الصلاة التي يريد أن يعدل عنها لكانت تقع صحيحة. فالمسألة بناء على هذا مبنية على أن الشك في الصلوات التي يكون الشك مبطلا لها موجب للبطلان بمحض حدوثه ويكون من قبيل القواطع أم لا بل معنى مبطلية الشك عدم شمول أدلة العلاج لها؟
فان كان من قبيل الاول فلا يبقى محل للعدول لان ما مضى من صلاته صار باطلا وليس قليلا لان ينضم إليه ركعة أخرى حتى يصير المجموع صلاة رباعية صحيحة. ولا أثر لكون صلاة القصر والاتمام حقيقة واحدة أو حقيقتين مختلفتين لان العدول ليس متوقفا على أن يكون المعدول عنه والمعدول إليه حقيقة واحدة، إذ يصح العدول من الظهر إلى العصر وكذلك العكس مع أنهما ليستا حقيقة واحدة قطعا بل حقيقتين مختلفتين. ولكن الظاهر جواز العدول لعدم كون الشك بمحض حدوثه مبطلا كالقواطع، بل مبطليته من جهة اشتراط صحة الاوليين باليقين، واستصحاب عدم الزيادة في ظرف الشك مما يقوم مقام اليقين الذي أخذ في موضوع الصحة. إن قلت: إنكم في الامر السابق بنيتم على بطلان الصلاة الثنائية والثلاثية والاوليين من الرباعية بمحض حدوث الشك.
[ 239 ]
قلنا: هناك بنينا على البطلان من جهة عدم جريان أصالة عدم الزيادة في الثنائية والثلاثية للادلة الخاصة التي مفادها الاعادة، وأما هاهنا فلا مانع من جريان استصحاب عدم الزيادة لانه لسنا نثبت باستصحاب عدم الزيادة صحة الصلاة الثنائية بل نريد إثبات صحته من جهة شرطيته للعدول فقط لا صحته من حيث ترتيب آثار الصحة عليه مطلقا وسقوط أمره والممنوع بالادلة الخاصة هو المعنى الثاني من الاستصحاب لا المعنى الاول. ومع ذلك كله صحة العدول لا تخلو من نظر وتأمل. وأما الشق الثاني من المسألة: وهو أنه على تقدير صحة العدول والبناء على الاكثر هل يجب العدول أو يجوز فقط؟ ربما يقال بوجوبه من جهة حرمة الابطال.
وفيه: أن حرمة الابطال متوقف على صحة العمل في حد نفسه فيكون ابطاله حراما وهاهنا العمل في حد نفسه باطل ويريد أن يصحح العمل بالعدول فعدم العدول وتركه ليس إبطالا، بل هو عدم التصحيح مع إمكانه ولا دليل على وجوب التصحيح وعلاج الشك مع إمكانه، وأدلة وجوب العلاج أي وجوب البناء على الاكثر مع تعقيبه بصلاة الاحتياط موضوعه الشكوك الصحيحة، وهاهنا كون الشك من الشكوك الصحيحة متوقف على العدول، فكيف يمكن أن يكون وجوب العدول مستندا إلى تلك الادلة؟ وهل هذا إلا تقدم الشئ على نفسه. فالانصاف: أن وجوب العدول لا دليل عليه. اللهم إلا أن يقال: قوله عليه السلام " لا يعيد الصلاة فقيه " 1 نهى عن الاعادة مع إمكان العلاج، وهاهنا حيث يمكن العلاج بالعدول فيجب.
(1) - تقدم تخريجه في ص 201، رقم (2). وليس هذا نص كلام الامام عليه السلام، بل يكون من كلام الراوي والسائل وليكن الامام يقرر هذا الكلام ويبينه.
[ 240 ]
الامر الثامن: فيما إذا انقلب شكه بعد الفراغ إلى شك آخر مثلا كان في الصلاة شاكا بين الاثنتين والثلاث وبعد البناء على الثلاث واتمام الصلاة باتيان ركعة أخرى والفراغ عنها تبدل هذا الشك بشك آخر - وهو الشك بين الثلاث والاربع قبل أن يأتي بصلاة الاحتياط - فليس عليه شئ أي لا يجب عليه صلاة الاحتياط أعني ركعة من قيام أو ركعتين من جلوس بدل الركعة الفائتة على تقدير فوتها. وذلك من جهة أن الشك الاول زال لانه انقلب إلى شك آخر، وصرف حدوثه لا يكفي في وجوب عمل الاحتياط، وأما الشك الثاني وان كان باقيا ولكنه لا أثر له لانه شك بعد الفراغ وهو لا اعتبار به ويكون من الشكوك التي ألغى الشارع اعتبارها. ولكن وهذا الذي ذكرنا من عدم الاثر بعد الانقلاب فيما إذا لم يكن عدم
العمل بالاحتياط وعدم الاعتناء بالشك موجبا للعلم بالزيادة أو النقيصة. وإلا فقاعدة الفراغ لا أثر لها مع العلم بالاخلال زيادة أو نقيصة لانها قاعدة مجعولة للشاك، وان شكه في إتيان جزء أو ركعة لا اعتبار به. وأما قاعدة " لا تعاد " فلا تشمل الاركان لانها داخلة في عقد المستثنى مثلا لو شك بين الاثنتين والاربع في حال الصلاة فبنى على الاربع واتم الصلاة ثم بعد الصلاة انقلب شكه إلى الاثنتين والثلاث فيعلم بالنقيصة لانه يعلم بعدم الرابعة فانه في الشك الاول وان كان يحتمل وجود الاربعة لانها أحد المحتملين ولكنه زال وفي الشك الثاني يعلم بعدمها فهذا هو العلم بالنقيصة. وأما العلم بالزيادة فكما لو شك بين الاثنتين والثلاث فبنى على الثلاث واتى بركعة واتم الصلاة وبعد الفراغ انقلب شكه إلى الاربع والخمس بعد الاكمال فيعلم بزيادة ركعة. وفي هذه الصور التي يعلم بالزيادة أو النقيصة يجب أن يعمل على طبق الشك الاخير إن كان العلم بالنقيصة، بمعنى أنه يعلم بان السلام وقع في الصلاة فليس بمخرج، فيجب أن يقوم ويأتي بالنقيصة ويأتي بسجدتي السهو للسلام في غير محله،
[ 241 ]
من جهة سهوه في الركعات. وأما إذا كان العلم بالزيادة بواسطة انقلاب الشك كما مثلنا له فتجب إعادة الصلاة لعدم علاج آخر، وأما الشك الاول فلا أثر له على كل حال لانه زال وانعدم، وبقاء الموضوع شرط عقلي لترتب حكمه. وأما إذا علم إجمالا بعد الانقلاب بالزيادة أو النقيصة كما إذا شك بين الثلاث والاربع في حال الصلاة فبنى على الاربع واتم الصلاة ثم بعد الفراغ انقلب شكه إلى الثلاث أو الخمس، فلا يخلو الامر حسب الشك الاخير أن ما صلى إما الثلاث - فتكون ناقصة - وإما تكون الصلاة التي صلاها خمس فتكون زائدة فيها ركعة، ولا
طريق إلى العلم بالامتثال والفراغ اليقيني إلا بالاعادة فتجب. الامر التاسع: لو مات الشاك في الشكوك الصحيحة بعد أن بنى على الاكثر أو على ما هو وظيفته، كما إذا كان شاكا بين الاربع والخمس بعد إكمال السجدتين فبنى على الاربع - كما تقدم وجهه - قبل أن يأتي بصلاة الاحتياط في الشق الاول، وقبل أن يأتي بسجدتي السهو في الثاني فهل يجب أن يقضي عنه الصلاة أم لا بل يجب صلاة الاحتياط في الفرض الاول وسجدتي السهو في الفرض الثاني؟ أو يفصل بين الفرضين بأن يقضي الصلاة في الفرض الاول ويقضي عنه سجدتا السهو فقط في الفرض الثاني؟ وكذلك الامر لو كان المنسى بعض أجزاء الركعة التي لها قضاء كالتشهد والسجدة الواحدة، فانه يجب قضاؤها دون أصل الصلاة وجوه: الاقوى: هو التفصيل بين الفرضين، ففيما إذا كان الفراغ والتسليم من جهة البناء على الاكثر وكانت الوظيفة وجوب الاتيان بصلاة الاحتياط فاللازم أن يقضي عنه أصل الصلاة لان ما أتى به - على تقدير كونه الاقل - بعض الصلاة، ويكون كما لو مات في أثناء الصلاة وحيث أن الصلاة واجب ارتباطي فإذا لم يتعقب البعض الاول ببعضها الباقي يبطل ذلك البعض الاول فيجب أن يقضي عنه مجموع الصلاة لان ما
[ 242 ]
أتى به بمنزلة العدم. هذا مضافا إلى تشريع القضاء في بعض الواجب الارتباطي غير معهود من الشرع ولم يرد دليل عليه. هذا بالنسبة إلى الفرض الاول وأما في الفرض الثاني فقد أتى بتمام الصلاة وسقط الامر ووجوب سجدتي السهو تكليف آخر وليس من أجزاء الصلاة فلا وجه لان يقتضي عنه أصل الصلاة والقضاء تابع لفوت الفريضة والمفروض أن الفريضة لم تفت عنه وانما الفائت هو سجدتا السهو وهو ليس من أجزاء الفريضة بل هو واجب
مستقل فيجب قضائه لانه فريضة فاتت. الامر العاشر: في أن في قاعدة البناء على الاكثر حيث أن روايات الباب كانت مشتملة على حكمين: أحدهما: هو البناء على الاكثر فيما كان موجبا لصحة الصلاة ولذلك سميت مثل هذه الشكوك بالشكوك الصحيحة. والثاني: هو تتميم ما احتمل نقصانه بصلاة مستقلة منفصلة تسمى بصلاة الاحتياط. ولما كانت صلاة الاحتياط من لواحق البناء على الاكثر فالمناسبة تقتضي أن نذكر ها هنا شطرا من أحكام صلاة الاحتياط وكيفيتها وشرائطها وغير ذلك من خصوصياتها حتى تكون القاعدة تامة الفائدة. فنقول: وتوضيح هذه المسألة وبيان كيفيتها وأحكامها وشرائطها وموانعها متوقف على بيان أمور: [ الامر ] الاول: يشترط فيها جميع ما يشترط في الصلاة من الشرائط العامة كطهارة البدن واللباس والستر والاستقبال وعدم غصبية المكان أي إباحته إلى غير ذلك من شرائطها.
[ 243 ]
والدليل على ذلك أنها صلاة غاية الامر مردد أمرها بين أن تقع نافلة أو متمما للصلاة الاصلية، فكل أمر دل الدليل على اعتبار وجوده أو عدمه في الصلاة من حيث صلاتيتة فهو معتبر وجودا أو عدما في صلاة الاحتياط. وحيث أن الدليل دل على اعتبار النية في الصلاة بما أنها صلاة فتكون معتبرة في صلاة الاحتياط لعين تلك الجهة أي أنها عبادة. ولا يمكن تحقق العبادة بدون قصد القربة والنية وكذلك تكبيرة الاحرام، فان الدليل دل على أن الصلاة لها افتتاح و
اختتام، افتتاحها بالتكبير واختتامها بالتسليم وهذه الامور التي ذكرناها باضافة الطهارة الحدثية من شرائط طبيعة الصلاة وكل ما صح على الطبيعة صح على جميع الافراد والاصناف إلا أن يأتي دليل خاص على عدم اعتباره في فرد خاص أو صنف مخصوص. فمقتضى القاعدة الاولية وجود هذه الامور وغيرها مما اعتبر في طبيعة الصلاة في صلاة الاحتياط، وهكذا الامر بالنسبة إلى الموانع والقواطع ولا يحتاج إلى وجود دليل خاص على اعتبار الوجود أو العدم. ولكن ربما يستشكل في لزوم تكبيرة الاحرام بل في جوازها وذلك من جهة أن صلاة الاحتياط ذات احتمالين وتقديرين. فعلى تقدير عدم النقصان تقع نافلة، وعلى هذا التقدير تكون تكبيرة الاحرام لازمة لان الصلاة ولو كانت نافلة غير معهود وقوعها بدون تكبيرة الاحرام. وأما على تقدير النقصان يكون جزء للصلاة الاصلية فتكون تكبيرة الاحرام وجودها مضرا للصلاة الاصلية، فيكون أمرها من قبيل دوران الامر بين محذورين لان عدم تكبيرة الاحرام مناف مع كونها نافلة مستقلة على تقدير عدم النقصان، ووجودها مناف مع جزئيتها على تقدير النقصان لانها زيادة ركن في الصلاة. ولكن الذي يدفع هذا الاشكال أن وجوب تكبيرة الاحرام في صلاة الاحتياط
[ 244 ]
إجماعي، فيكون الاجماع دليلا على عدم مضرية هذه الزيادة على تقدير الجزئية أو يقال: بأنه يستكشف من هذا الاجماع أنه صلاة مستقلة حتى على تقدير النقصان، غاية الامر يحصل بها ذلك المقدار الذي فات من المصلحة بواسطة النقصان. ويمكن أن يستشهد لوجوب تكبيرة الاحرام في صلاة الاحتياط برواية زيد الشحام التي تقدمت وفيها قال عليه السلام: " وان كان لا يدري أزاد أم نقص فليكبر وهو
جالس ثم ليركع ركعتين بفاتحة الكتاب في آخر صلاته ثم يتشهد " 1. ثم إنه ظهر مما ذكرنا من اعتبار جميع ما اعتبر في الصلاة فيها تعين قراءة فاتحة الكتاب فيها، لانها صلاة ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. مضافا إلى ورود أخبار تدل عليها، كرواية العلاء: قلت لابي عبد الله عليه السلام: رجل صلى ركعتين وشك في الثالثة؟ قال عليه السلام: " يبني على اليقين فإذا فرغ تشهد وقام قائما فصلى ركعة بفاتحة الكتاب " 2. وكصحيحة الحلبي: " إن كنت لا تدري ثلاثا صليت أم أربعا ولم يذهب وهمك إلى شئ فسلم ثم صل ركعتين وأنت جالس تقرأ فيهما بام الكتاب ". 3 وكصحيحة زرارة قال عليه السلام في ذيلها في بيان حكم من لم يدر في أربع هو أو في ثنتين وقد أحرز الثنتين قال: " يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب " 4. فهذه الاخبار وغيرها مما هو مثلها تدل على وجوب قراءة فاتحة الكتاب وتعينها في صلاة الاحتياط. ثم إنه هل يجب الاخفات فيها أو يجوز الجهر بها؟
(1) تقدم تخريجه في ص 223، رقم (2). (2) تقدم تخريجه في ص 201، رقم (1). (3) تقدم تخريجه في ص 208، رقم (4). (4) تقدم تخريجه في ص 210، رقم (1).
[ 245 ]
وقال جماعة كما حكى عن الشهيد قدس سره 1 وغيره بالاول. ولعل مستندهم أنها على تقدير النقصان تقوم مقام الركعتين الاخيرتين والحكم فيهما الاخفات في القراءة لو اختارها دون التسبيح، فكذلك فيما يقوم مقامهما، بل في
الحقيقة صلاة الاحتياط هي الاخيرتين فيما كانت ركعتين أو إحديهما فيما كان النقصان بواحد. ولكن ظاهر الاخبار أنها صلاة مستقلة منفردة يتدارك بها المقدار الفائت من مصلحة الصلاة الاصلية على تقدير النقصان. وبناء على هذا حيث أنه لم يرد دليل على وجوب الاخفات أو الجهر فمقتضى القاعدة هو التخيير، وان كان الاخفات أحوط. الامر الثاني: في أنه لا أذان ولا إقامة ولا سورة ولا قنوت فيها. أما الاولان - أي عدم الاذان والاقامة فيها - فلان أمرها دائر بين أن تكون نافلة فليس فيها الاذان والاقامة أو تكون جزءا للفريضة الاصلية ولم يشرعا في جزء الفريضة. نعم لو قلنا بأن صلاة الاحتياط صلاة واجبة مستقلة وسبب وجوبها تدارك مصلحة الفائتة بها على تقدير النقصان فيمكن أن يقال بشمول إطلاقات أدلتهما لهذا المورد أيضا. وفيه: أنه وان ورد في موثقة سماعة " لا صلاة إلا بأذان واقامة " 2 ولكن لا يمكن الاخذ بهذا الاطلاق وذلك للاتفاق على عدم مشروعيتهما في غير اليومية، فلو كانت صلاة الاحتياط صلاة مستقلة ولم تكن من متممات اليومية فتشريع الاذان و الاقامة فيها غير معلوم، ومقتضى الاصل عدم جوازهما.
(1) " الدروس " ج 1، 372، " البيان " ص 255. (2) " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 282، ح 1123، باب الاذان والاقامة، ح 25، " الاستبصار " ج 1، ص 300، ح 1109، باب الاذان والاقامة في صلاة المغرب...، ح 6، " وسائل الشيعة " ج 4، أبواب الاذان والاقامة، باب 35، ح 2.
[ 246 ]
نعم لو كانت مع أنها صلاة مستقلة جزء لليومية وبحكمها لكانا مشروعين فيها،
ولكن إثبات ذلك مشكل مع أنها لو كانت كذلك فأيضا لا يخلو عن إشكال لان الفريضة اليومية منصرفة عن مثل هذه الصلاة فالاصح أن الاذان والاقامة لم يشرعا فيها. وأما السورة والقنوت فللاتفاق على عدم وجوبهما فيها ولا استحبابهما، وأيضا لو كانا فيها واجبين أو كان خصوص السورة واجبا لكان عليه السلام ذكره في عداد الواجبات، ونصوص الباب خالية عنهما مع ذكر سائر الواجبات فيها. وأما القول بوجوب السورة بلحاظ وجوبها في سائر الصلوات الواجبة فلو قلنا بأن صلاة الاحتياط صلاة واجبة مستقلة يتدارك بها ما فات من مصلحة الفريضة، فالدليل على وجوبها في سائر الصلوات الواجبة دليل على وجوبها فيها. وفيه: أن وجوب هذه الصلاة وان كان من المسلم ولكن ليس وجوبا مستقلا كسائر الواجبات لوجود ملاك ومصلحة في نفسها، بل وجوبها باعتبار تتميم ما نقص من الفريضة الاصلية ولذلك لو تنبه في أثنائها بتمامية الفريضة الاصلية لا يجب عليها إتمامها، ويجوز بل يجب العدول إلى النافلة لانه لا موضوع بعد ذلك الالتفات لاتيانها بصفة الوجوب لان موضوعها احتمال النقص في الصلاة الاصلية. الامر الثالث: فيما إذا صدر منه ما يبطل الصلاة قبل أن يأتي بصلاة الاحتياط، كما إذا صدر منه أحد القواطع فهل تبطل الصلاة ويجب إعادتها؟ إذ لا تأثير بعد ذلك في صلاة الاحتياط، إذ بناء على أن صلاة الاحتياط متممة للنقص الذي حصل في الصلاة الاصلية فالقاطع كالحدث مثلا وقع في الاثناء فليست صلاة الاحتياط باعتبار أنها متممة للصلاة الاصلية قابلة لان تنضم إلى الصلاة الاصلية لان القاطع قطع حبل الاتصال. وبعبارة أخرى: القاطع قطع صورة الصلاتية، وبهذا الاعتبار يطلق عليه القاطع،
[ 247 ]
فالجزء الصوري الذي يكون المراد به الهيئة الصلاتية انعدمت بواسطة القاطع، فليست الاجزاء الباقية بعد وجود القاطع قابلا لتشكيل الهيئة الصلاتية بواسطة إنضامها إلى الاجزاء السابقة، فقهرا تبطل الصلاة ويجب إعادتها. ولكن هذا بناء على كون صلاة الاحتياط جزءا متمما للصلاة الاصلية على تقدير النقصان. وأما لو قلنا بانها صلاة مستقلة شرعت لاجل تدارك ما فات من مصلحة الصلاة الاصلية على تقدير النقصان، وهذا الامر من قبيل حكمة تشريعها، كما ورد في حكمة تشريع النوافل التي هي رواتب الفرائض اليومية أنها شرعت لاجل جبران النقص الذي ربما يقع في الفرائض الخمس بحيث يكون المجموع من الرواتب والفرائض الناقصة وافيا بمصالح الفرائض الواقعية التامة، فوقوع الحدث مثلا قبل صلاة الاحتياط وبعد الصلاة الاصلية لا يؤثر في بطلان الصلاه الاصلية لانه وقع قبلها لا في أثنائها. ولكن التحقيق: أن مقتضى الجمع بين الادلة هو أن هذه الصلاة لا مستقلة تماما ولا جزء متمم بل فيها جهة الاستقلال باعتبار قوله عليه السلام في مرسل جميل: " إن شاء صلى ركعة وهو قائم وان شاء صلى ركعتين وأربع سجدات وهو جالس " 1. وأيضا قوله عليه السلام: في صحيحة الحلبي: " ثم صل ركعتين وأنت جالس " 2. وفيها جهة الجزئية. وانها متمم لنقص الصلاة الاصلية لقوله عليه السلام في موثقة عمار " واتمم ما ظننت أنك نقصت " 3 فهي معنى متوسط بين الاستقلال والجزئية وليست أجنبية عن كليهما.
(1) تقدم تخريجه في ص 206، رقم (2) (2) تقدم تخريجه في ص 208، رقم (4). (3) تقدم تخريجه في ص 183 و 184.
[ 248 ]
وبناء على هذا - من حيث أنها صلاة مستقلة وتشريعها لاجل تدارك المصلحة الفائتة على تقدير النقصان وليست جزء من الصلاة الاصلية - فالصلاة الاولية تمت بواسطة البناء على الاكثر والفراغ منها بواسطة التسليم حصل فلم يقع القاطع في أثنائها كي تبطل، والمصلحة الفائتة يتدارك فيما بعد بواسطة صلاة الاحتياط فلا يبقى وجه للبطلان والاعادة. ومن حيث أن فيها جهة كونها متمما للصلاة الاصلية تكون بحكم الجزء، فكان القاطع وقع في الاثناء فتكون فاسدة فيكون حدوث القاطع موجبا للبطلان ولزوم الاعادة. ولكن أنت خبير بان ما قلنا: إن فيه جهة الجزئية ليس المراد منه أنها جزء الصلاة الاصلية، بل المراد أنها جزء متمم لما هو ذو المصلحة فالصلاة الاصلية و صلاة الاحتياط كلاهما مجموعا دخيلان في حصول المصلحة لا أن أحدهما جزء للآخر، فوقوع الحدث بينهما لا يضر بكل واحد منهما. الامر الرابع: فيما إذا تذكر بعد الفراغ عن الصلاة الاصلية والبناء على الاكثر أن ما صلى كان كذا من الركعة وارتفع الشك وحصل له اليقين. فهذا لا يخلو حاله: إما أن يحصل له اليقين بالتمام أو بالنقصان. فان كان الاول وكان بعد الاتيان بصلاة الاحتياط فتكون صلاة الاحتياط نافلة كما هو مفاد بعض الاخبار. وان كان قبل صلاة الاحتياط فلا يجب إتيانها لان وجوبها كان باعتبار تتميم ما نقص، وبعد اليقين بالتمام وتذكره وارتفاع الشك الذي كان موضوع وجوب صلاة الاحتياط لا يبقى مورد ومحل لوجوب إتيانها. وان كان التذكر في أثناء الاحتياط فله أن يقطع ويرفع اليد عنها لتبين عدم
وجوبها فلا مانع من قطعها. وله أن يتمها نافلة، فان كان الاحتياط ركعة يضم إليها
[ 249 ]
ركعة أخرى ويتمها نافلة. ولا يكتفي في جعلها نافلة بتلك الركعة الواحدة وذلك من جهة عدم معهودية كون صلاة النافلة ركعة واحدة في غير الوتر. اللهم إلا أن يقال: إن الدليل الذي مفاده جعل صلاة الاحتياط نافلة على تقدير كون الصلاة الاصلية تامة يشمل باطلاقه ما إذا كان صلاة الاحتياط ركعة واحدة، فيدل على صحة كون النافلة ركعة واحدة. وان كان الثاني تذكر نقصان الصلاة الاصلية فلها صور: الصورة الاولى: أن يكون تذكره بعد الاتيان بصلاة الاحتياط وكان النقص المنكشف مطابقا مع صلاة الاحتياط كما وكيفا فلا شئ عليه وقد أتى بما هو وظيفته وصحت صلاته لما تقدم من قوله عليه السلام في موثقة عمار: " وان ذكرت أنك كنت نقصت كان ما صليت تمام ما نقصت " 1. الصورة الثانية: هي عين الصورة الاولى لكن مع الاختلاف في الكم، مثل أن يكون النقص المنكشف ركعتين والاحتياط ركعة واحدة كما إذا شك بين الثلاث والاربع، فبعد استقرار الشك بنى على الاربع وصلى الاحتياط ركعة واحدة وبعد الفراغ عنها تذكر أن صلاته الاصلية كانت ركعتين، ففي مثل هذا المورد من المحتمل القول بانه يضيف على الاحتياط ركعة أخرى كي يتم بها النقص المنكشف. وهناك احتمالان آخران: أحدهما: كفاية صلاة الاحتياط التي أتى بها وان كانت مخالفة مع النقص المنكشف في الكم. واختار شيخنا الاستاذ قدس سره هذا الاحتمال تمسكا باطلاق قوله عليه السلام: " وان ذكرت
(1) تقدم تخريجه في ص 184، رقم (1).
[ 250 ]
أنك نقصت كان ما صليت تمام ما نقصت " 1. ولكن الظاهر أنه عليه السلام في مقام أن صلاة الاحتياط لا تذهب هدرا على كل تقدير، بل إما أن تكون متمما للنقصان على تقدير النقص، وإما أن تكون نافلة على تقدير التمام. وليس في مقام بيان أنه متمم على كل حال ولا يحتاج إلى شئ آخر، فلا مجال للتمسك باطلاقه من هذه الجهة. الثاني: بطلان الصلاة ووجوب الاعادة باعتبار عدم إمكان العلاج والشك في الامتثال باتيان ركعة أخرى وتتميم ما نقص. أما عدم إمكان العلاج فمن جهة عدم كون صلاة الاحتياط جابرة للنقص لكونها أقل منه. وأما تتميها بركعة أخرى منفصلة فليس عليه دليل، إذ صلاة الاحتياط في مورد الشك، والشك ارتفع، فلو أتى بركعة أخرى مضافا إلى صلاة الاحتياط وان كان يتم بها النقص من حيث عدد الركعات ولكن الانفصال والخروج عن الصلاة بالتسليم لا علاج له. ولا يقاس بصلاة الاحتياط، فانها وان كانت منفصلة وبعد التسليم إلا أن عيها دليل كموثقات عمار وغيرها، وتلك الادلة لا تشمل المقام لان موضوع الحكم بالاحتياط فيها هو الشك والمفروض أن الشك ارتفع فيما نحن فيه فيكون شكا في الامتثال فتجب الاعادة لتحصيل القطع بالامتثال. ومما ذكرنا ظهر لك أنه لا وجه للقول بأنه يعمل عمل المحتمل لهذا النقص المنكشف والشاك فيه مثلا في المفروض أليس أنه انكشف أن صلاتة التي صلاها كانت ركعتين والنقص بركعتين فيعمل عمل الشك بين الاثنتين والاربع أي يأتي
بركعتين من قيام ويصرف النظر عن الاحتياط الذي عمل به.
(1) " كتاب الصلاة " ج 3، ص 198.
[ 251 ]
وهو احتمال غريب لانه لم يشك مثل هذا الشك بل ليس له شك أصلا لان شكه الذى كان بين الثلاث والاربع ارتفع وليس له شك آخر فيكون حكما بلا موضوع، فالاظهر بل الارجح هو الاعادة في صورة الاختلاف في الكم. وأما إن كان اختلافهما في الكيف مثلا شك بين الاثنتين والثلاث فبنى على الثلاث واتم الصلاة ثم صلى صلاة الاحتياط ركعتين من جلوس فتذكر أن صلاته كانت اثنتين فالظاهر أنه أتى بوظيفته. وركعتين من جلوس وان كانتا مخالفتين في الكيف مع الركعة من قيام لكن الشارع جعلهما بدلا عن الركعة من قيام فحصل الامتثال وسقط الامر. هذا كله فيما إذا كان تذكره بعد صلاة الاحتياط. وأما لو كان قبلها أي تذكر النقص وانه بركعة مثلا أو بركعتين قبل أن يأتي بصلاة الاحتياط فهذه الصورة الثالثة من تذكر النقص. وهنا احتمالات: الاول: وهو الصحيح أن يأتي بالنقص المتيقن وذلك من جهة وقوع السلام في غير محله فلم يخرج عن الصلاة بصرف السلام والمفروض أنه لم يأت بمناف أي أحد القواطع من الحدث أو الاستدبار أو السكوت الطويل الماحي لصورة الصلاة أو غيرها من القواطع وإلا فمعلوم أنه فيما إذا أتى بأحد القواطع فالصلاة باطلة وتجب إعادتها. فمقتضى القاعدة أن سلامه مثل السلام السهوي فبعد أن تذكر السهو يجب عليه أن يقوم ويأتي بالبقية.
وهناك احتمالان آخران: الاول: بطلان الصلاة ووجوب إعادتها وذلك من جهة أنه خرج عن الصلاة بالتسليم وعلم بنقصان صلاته بركعة أو ركعتين والركعة مشتملة على الاركان
[ 252 ]
ونقيصة الركن غير مغتفر في الصلاة عمدا كانت أو سهوا. وفيه: أن نقيصة الاركان وان كانت موجبة للبطلان ولكن النقيصة لا يتحقق إلا بأحد أمرين: إما بخروجه عن الصلاة بايقاع السلام في محله أو بوجود أحد القواطع وإلا بصرف عدم وجود شرط أو جزء ركني مع بقاء محله لا يصدق النقيصة. هذا مضافا إلى ورود روايات معتبرة على أنه لو تذكر نقص صلاته بعد التسليم وقبل صدور المنافي يجب عليه أن يأتي به. منها: خبر محمد بن مسلم عن الباقر عليه السلام في نقصان ركعتين في رجل صلى ركعتين من المكتوبة فسلم وهو يرى أنه قد أتم الصلاة وتكلم ثم ذكر أنه لم يصل غير ركعتين؟ فقال عليه السلام: " يتم ما بقى من صلاته ولا شئ عليه " 1. والفرق بين المقام وبين ذاك بأن مورد الرواية هو السلام باعتقاد الفراغ هناك وهيهنا بحكم الشارع غير فارق فيما هو المناط وهو كونه في غير محله. وقد شرحنا هذه المسألة أي تذكر النقص بعد السلام في المجلد الاول من هذا الكتاب في شرح قاعدة " لا تعاد " 2 وان شئت فراجع. وخلاصة الكلام: أن بطلان الصلاة بنقص ركعة أو ركعتين أن تذكر وانكشف له بعد التسليم قبل إتيان ما هو المبطل لا وجه له بل يجب عليه التدارك واتيان ما نقص بعنوان تتمة الصلاة لا صلاة الاحتياط. الثاني: هو أنه يجب عليه صلاة الاحتياط كما أنه لو كان شكه باقيا ولم يتذكر النقص فصلاته الاصلية مع صلاة الاحتياط موجبة للقطع بالامتثال وتوجب براءة
الذمة واسقاط الامر.
(1) " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 191، ح 757، باب أحكام السهو في الصلاة...، ح 58، " الاستبصار " ج 1، ص 378، ح 1436، باب من تكلم في الصلاة ساهيا أو عامدا، ح 4، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 309، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 3، ح 9. (2) " القواعد الفقهية " ج 1، ص 116.
[ 253 ]
وهذا احتمال غريب وبعيد إلى الغاية وذلك من جهة أن صلاة الاحتياط موضوعها الشاك فإذا ارتفع الشك وتذكر النقص يخرج عن موضوع خطاب صلاة الاحتياط. وأما إذا كان تذكره للنقص في أثناء صلاة الاحتياط فهذه هي الصورة الرابعة. وفي هذه الصورة صور ربما يختلف حكمها فنقول: الاولى: أن تكون صلاة الاحتياط مطابقة مع النقص الذى تذكره كما وكيفا مثلا شك بين الاثنين والثلاث وبنى على الثلاث ثم تذكر أن صلاته ناقصة بركعة في أثناء صلاة الاحتياط التي هي عبارة عن ركعة من قيام. فهاهنا يجب عليه إتمام صلاة الاحتياط وليس عليه شئ. والوجه واضح بعد اغتفار زيادة تكبيرة الاحرام فان المأمور به في حال الشك بعد التسليم هي الركعة الواحدة من قيام غاية الامر بزيادة التكبير وبعد تذكر النقص وانه ركعة واحدة أيضا يكون المأمور به هو نفس ما كان حال الشك فلا وجه لرفع اليد عنها وتجديدها ثانيا. الثانية: أن تكون مخالفة مع النقص الذي تذكره في الكم والكيف أو في أحدهما. فهذه الصورة الثانية تنقسم إلى ثلاث: فالاول أي المخالف في الكم والكيف كما إذا شك بين الثلاث والاربع فبنى على الاربع وشرع في صلاة الاحتياط واختار ركعتين من جلوس فتذكر في أثنائها أن
النقص ركعة واحدة فصلاة الاحتياط في هذا الفرض مخالف مع النقص المذكور كما لانه ركعة واحدة وصلاة الاحتياط ركعتين وكيفا من جهة أنه من قيام وصلاة الاحتياط من جلوس. فهنا احتمالات بل أقوال ثلاث: الاول: بطلان الصلاة ولزوم الاعادة لان النقص فيها معلوم وليس له علاج ولا
[ 254 ]
يمكن تداركه لان التدارك إما بصلاة الاحتياط ولا يمكن بهذه التي هو فيها لمخالفتها مع النقص المعلوم كما وكيفا أو برفع اليد عن الاحتياط والصلاة قائما بمقدار النقص الذي تذكره أي يتمها لا بعنوان صلاة الاحتياط وهذا لا يمكن للفصل بين المتمم - بالكسر - والمتمم - بالفتح - أولا ولزيادة الاركان المتعددة بناء على جزئية صلاة الاحتياط للصلاة الاصلية ثانيا ومن جهة الخروج عن الصلاة بالتسليم ثالثا. وأيضا لا يمكن تداركه بصلاة احتياط أخرى مطابقا للنقص المذكور لان صلاة الاحتياط موضوعها الشك فإذا ارتفع - كما هو المفروض في المقام - لا يبقى مجال لصلاة الاحتياط مطابقة للنقص الذي تذكره مرة أخرى فلابد من الاعادة. الثاني: إتمام صلاة الاحتياط والاكتفاء بها وان كانت مخالفة للنقص المعلوم كما وكيفا لاطلاق أدلة صلاة الاحتياط. وفساد هذا الاحتمال واضح لما ذكرنا أن جابرية صلاة الاحتياط للنقص المعلوم فيما إذا كانت مطابقة للنقص المعلوم وأما إذا لم يكن كذلك فكونه جابرا مع ارتفاع الشك لا وجه له أصلا. الثالث: إدخال هذه المسألة فيمن تذكر النقص بركعة أو ركعتين بعد التسليم سهوا حيث أن في تلك المسألة دلت الاخبار على إتمام الصلاة بالمقدار الذي علم بالنقص. وقد تقدم خبر محمد بن مسلم عن الباقر عليه السلام وانه عليه السلام قال: " يتم ما بقي من صلاته
ولا شئ عليه " 1 وقلنا هناك: إن الفرق بين المسألتين بأنه هناك - أي في مورد الرواية - صدور السلام يكون سهوا وفيما نحن فيه عمدي وبحكم الشارع ليس بفارق فيما هو مناط الحكم وهو وقوع السلام في غير محله. والارجح من هذه الاحتمالات هو الاحتمال الاخير كما ظهر مما تقدم وجهه. الثالثة: أن تكون مخالفة للشك المحتمل وان كانت موافقة للنقص المعلوم كما وكيفا.
(1) - تقدم ذكره في ص 252، رقم (1).
[ 255 ]
والظاهر أنه مثل الصورة الاولى من الصورة الرابعة أي يمضي في الاحتياط ولا شئ عليه إذ مادام تكون صلاة الاحتياط موافقة مع النقض المعلوم لا أثر لمخالفتها لحكم الشك المحتمل إذ الشك ارتفع وجاء مكانه القطع بالنقص فلابد من ملاحظة آثار هذا القطع الموجود لا الشك الزائل كما أنه لو كانت موافقة للشك المحتمل ولكن كانت مخالفة للنقص المعلوم لا أثر لموافقتها للشك المحتمل. الصورة الخامسة: أن يكون تذكره للنقص بين الاحتياطين وذلك كما أنه في الشك المركب كالشك بين الاثنتين والثلاث والاربع مثلا بنى على الاربع فهاهنا - كما تقدم في أحكام الشكوك الصحيحة - يجب عليه الاحتياط بصلاتين: إحديهما ركعة واحدة من قيام أو ركعتين من جلوس الثانية: ركعتين من قيام. فلو حصل له اليقين بمقدار النقص بعد أن أتى بأحد الاحتياطين دون الآخر فان كان الاحتياط الذي أتى به موافقا مع النقص المعلوم مثلا علم بأن النقص ركعة إذ تذكر أنه صلى ثلاث ركعات وهو أولا أتى بوظيفة الشك بين الثلاث والاربع أي صلى صلاة الاحتياط ركعة من قيام أو ركعتين من جلوس فان كان مختاره ركعة من قيام فتم عمله وليس عليه شئ قطعا. وهذا واضح جدا. وان كان مختاره ركعتين من جلوس فالظاهر أنه أيضا كذلك لان جعل ركعتين
من جلوس في ظرف الشك بمنزلة ركعة من قيام ومجزيتين عنها كان مفاد الادلة. والحاصل: أنه إن كان الاحتياط الاول الذى أتى به موافقا مع النقص الذي تذكره فصلاته صحيحة ولا شئ عليه لما ذكرنا فلا نعيد. وأما إن كان مخالفا له في الكيف والكم أو الكم وحده فواضح أنه لا يجوز الاكتفاء به لزيادتها إن كان الاحتياط الاول الذي أتى به أزيد من النقص الذي تذكره أو لبقاء مقدار من النقيصة إن كان أقل. وفي كلتا الحالتين لا يمكن أن تكون صلاة الاحتياط الاولى جابرة للنقص المعلوم.
[ 256 ]
فلابد إما من صرف النظر عما أتى به من باب صلاة الاحتياط والاتيان بمقدار النقص المعلوم من باب إدخال المسألة في مسألة تذكر نقص الصلاة بركعة أو ركعتين بعد السلام بزعم الفراغ أو إعادة أصل الصلاة. وقد تقدم الكلام فيما تقدم من نظير هذه المسألة إن تذكر في أثناء الاتيان بصلاة الاحتياط إذا كان احتياطا واحدا كما في الشك البسيط. وأما إن كان مخالفا في الكيف فقط فيمكن أن يقال بالاكتفاء بذلك الاحتياط لجعله الشارع بدلا عما هو النقص الواقعي مثلا لو شك بين الاثنتين والثلاث والاربع فهنا له وظيفتان: إحديهما: وظيفة الشك بين الثلاث والاربع وهي ركعتان من جلوس. واخرى: وظيفة الشك بين الاثنتين والاربع وهي ركعتان من قيام. فلو قدم إتيان الوظيفة الاولى - أي الشك بين الثلاث والاربع - واختار ركعتين من جلوس فتذكر بعد الاتيان بهذه الوظيفة وقبل الاتيان بالوظيفة الاخرى أن صلاته التي صلاها كانت ثلاث ركعات والنقص بواحدة فحيث أن الشارع جعل ركعتين من جلوس في ظرف الشك بدلا عن الركعة من قيام وقد أتى هو بها في ظرف الشك فيكون مجزيا وليس عليه شئ. فالاختلاف في الكيف إذا أتى بها في ظرف الشك لا
أثر له إذا كان مطابقا في الكم. وخلاصة ما ذكرنا في هذا الامر الرابع - أي فيما تذكر النقص وارتفع الشك الذي كان موضوعا لصلاة الاحتياط - أن تذكره وارتفاع شكه إما أن يكون قبل صلاة الاحتياط أو بعدها أو في أثنائها أو في أثناء الاحتياطين. أما الاول أي فيما إذا كان قبل صلاة الاحتياط فالاظهر هو الاتيان بالنقص المعلوم لا البطلان واعادة الصلاة ولا التدارك بصلاة الاحتياط لارتفاع موضوعها وهو الشك. وأما في الشقوق الثلاثة الاخيرة فان كان ما أتى به بعنوان الاحتياط أو دخل فيه
[ 257 ]
كذلك موافقا في الكم والكيف أو في الكم فقط مع النقص المعلوم فيمضي في احتياطه ولا شئ عليه وإلا فيجب إعادة صلاته. وأما موافقة صلاة الاحتياط لحكم الشك المحتمل وعدم موافقتها له فلا أثر له بعد بيان الواقع وكشفه وارتفاع الشك وحصول اليقين فالمناط كل المناط مطابقة صلاة الاحتياط للنقص المعلوم وعدم مطابقتها. ثم إنه كان جميع ما ذكرنا فيما إذا تذكر نقص الصلاة التي أتى بها وأما لو تذكر زيادتها على ما هو الفرض بركعة أو أزيد فواضح بطلانها ولزوم إعادتها لعدم علاج لزيادة الاركان وانها موجبة للبطلان عمدا كان أو سهوا. الامر الخامس: لو شك في إتيان صلاة الاحتياط بعد وجوبها وتنجزها عليه فان كان الشك بعد خروج الوقت فهذا من الشك بعد الوقت ولا اعتبار به لان حال صلاة الاحتياط حال سائر أجزاء الصلاة الاصلية فيبني على الاتيان. وأما لو كان حدوث الشك في الوقت فمقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الاتيان بها إلا فيما يكون مجرى لقاعدة الفراغ أو قاعدة التجاوز فإذا كان جالسا في محل الصلاة
ولم يأت بما هو مناف ومبطل للصلاة حتى السكوت الطويل الماحي لصورة الصلاة ولم يدخل في فعل آخر فلا مورد لجريان كلتا القاعدتين. أما عدم إحراز مجرى قاعدة الفراغ فلاجل أن مجراها هو الشك في تمامية الموجود وهاهنا يكون الشك في أصل الوجود. واما قاعدة التجاوز فلاجل عدم التجاوز عن المحل الشرعي لصلاة الاحتياط بل ولا العرفي. أما لو أتى بالمنافي والمبطل أو دخل في فعل آخر فهل يكون داخلا في مجرى القاعدتين أو إحديهما أو لا؟ فيه كلام. وتفصيله عبارة عن أنه هل يصدق الفراغ بايجاد المنافي أم لا؟ وكذلك التجاوز؟
[ 258 ]
والظاهر أن المنافي إذا كان مثل الاستدبار أو السكوت الطويل مما يكون غالبا بعد الفراغ عن الصلاة يصدق الفراغ به عرفا. وأما الدخول في فعل آخر فلا شك في صدق الفراغ معه مضافا إلى أن موضوع الحكم بعدم الاعتناء بالشك ليس هو عنوان الفراغ بل عنوان المضي والتجاوز والخروج عن الشئ والدخول في غيره وهذه العناوين تصدق قطعا مع الدخول في فعل آخر مناف للصلاة حتى مثل التعقيب. فلو كان جالسا ويشتغل بالتعقيب وقلنا بوجوب صلاة الاحتياط عقيب التسليم بلا فصل - كما هو مقتضى الجزئية على تقدير النقصان - فمع دخوله في التعقيب يصدق التجاوز عن محل صلاة الاحتياط والفراغ عنها وعن الصلاة الاصلية ومع ذلك كله لا ينبغي ترك الاحتياط باتيان صلاة الاحتياط لانه وان كانت هاتان القاعدتان حاكمتين على قاعدة الاشتغال بل وكذلك على استصحاب عدم الاتيان بها إلا أن الشأن في جريانهما فانه لا يخلو من إشكال وان رجحنا جريانهما في بعض صور
المسألة خصوصا إذا حصل الشك بعد دخوله في فعل مناف للصلاة. الامر السادس: في أنه لا سهو في سهو. ويدل على هذا الحكم روايات: منها: ما عن الشيخ في الصحيح - أو الحسن - عن حفص البختري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " ليس على الامام سهو ولا على من خلف الامام سهو ولا على السهو سهو ولا على الاعادة إعادة " 1. ومنها: ما عن الصدوق باسناده عن إبراهيم بن هاشم في نوادره أنه سئل أبا عبد الله عليه السلام عن إمام يصلي بأربع نفر أو بخمس فيسبح إثنان على أنهم صلوا ثلاثا ويسبح ثلاثة على أنهم صلوا أربعا يقول هؤلاء: قوموا ويقول هؤلاء: أقعدوا
(1) " تهذيب الاحكام " ج 2، ص 344، ح 1428، باب أحكام السهو، ح 16.
[ 259 ]
والامام مائل مع أحدهما أو معتدل الوهم فما يجب عليهم؟ قال عليه السلام: " ليس على الامام سهو إذا حفظ عليه من خلف سهوه باتفاق منهم وليس على من خلف الامام سهو إذا لم يسه الامام ولا سهو في سهو " الحديث 1. وعن الكليني عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام نحوه 2. فلا إشكال في هذه الجملة من حيث اعتبار السند والصدور خصوصا مع تلقيها الاصحاب بالقبول فالعمدة فهم المراد منها. فنقول: الظاهر من قوله عليه السلام: " لا سهو " أن السهو - أي: السهو المنفي - بمعنى الشك بقرينة نظائره في قوله عليه السلام " ليس على الامام سهو ولا على من خلف الامام سهو ولا سهو في سهو وليس في المغرب سهو ولا في الركعتين الاوليين في كل صلاة
سهو ولا سهو في نافلة ". فان كلمة " السهو " في جميع هذه الموارد المراد به الشك كما هو واضح وان كان في حد نفسه مع قطع النظر عن هذه القرينة فيها احتمالات ثلاث: خصوص الشك وخصوص النسيان والاعم منهما. والمراد من السهو الثاني أي: ما هو الظرف للسهو المنفي صلاة الاحتياط التي هي حكم الشك في عدد الركعات فيكون هذه الجملة نظير " لا شك لكثير الشك " من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع فمعناه أن حكم الشك ليس في حكم الشك أي البناء على الاكثر وصلاة الاحتياط ليس في صلاة الاحتياط إذا شك في عدد ركعاتها فالسهو الاول والثاني - أي الظرف والمظروف - بمعنى واحد. ويمكن أن يكون المراد من السهو في كلا المقامين - أي الظرف والمظروف أعم من
" الفقيه " ج 1، ص 352، باب أحكام السهو في الصلاة، ح 1028. (2) " الكافي " ج 3، ص 358، باب من شك في صلاته كلها ولم يدر زاد أو نقص..، ح 5.
[ 260 ]
الشك والنسيان أي حكم الشك الذي هو عبارة عن صلاة الاحتياط وحكم النسيان الذي هو عبارة عن سجدتي السهو فقط في بعض الموارد ومع القضاء في البعض الآخر ليس في حكم الشك وفي حكم النسيان فيكون معناه أن الشك في عدد ركعات صلاة الاحتياط ليس فيه البناء على الاكثر وصلاة الاحتياط وكذلك في سجدتي السهو وقضاء بعض الاجزاء المنسية ليس سجدتي السهو ولا قضاء إذا نسى شيئا منها. ولكن هذا المعنى لا يناسب مع وحدة السياق فالظاهر تعين المعنى الاول وإلا فبحسب الاحتمال تكون الاحتمالات تسعة حاصلة من ضرب ثلاثة احتمالات للسهو المظروف في ثلاثة احتمالات السهو الذي هو ظرف ويكون مدخولا لحرف الجر
سواء كان هو " في " كما في بعض الروايات أو " على " كما في البعض الآخر. ولا يتوهم أن المراد من السهو الاول وان كان هو حكم الشك أي البناء على الاكثر وصلاة الاحتياط لانه من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ولكن لا دليل على أن يكون المراد من السهو الثاني الذي هو ظرف للسهو الاول أيضا حكم الشك وذلك لعدم جريان دليل الاول - الذي هو عبارة عن نفي الحكم بلسان نفي الموضع - فيه لانه هناك ليس مقام نفي الحكم بلسان نفي الموضوع فانه لا نفي هناك أصلا لانفي الحكم ولا نفي الموضوع وذلك من جهة أنه لا يمكن أن يكون المراد منه نفس الشك لانه حينئذ يكون المعنى: ليس حكم الشك في الشك. اللهم إلا أن يكون متعلق الشك هو عدد ركعات صلاة الاحتياط فيكون نفس المعنى وكر على ما فر. ثم إن حكم الشك وان لم يكن منحصرا بالبناء على الاكثر ولا متعلقة منحصر بعدد الركعات بل قد يتعلق بأفعال الصلاة أي إتيان إجزائها وشرائطها وترك موانعها وقواطعها كما أن حكمه قد يكون إبطال الصلاة التي وقع فيها الشك كالفريضة الثنائية والثلاثية والاوليين من الرباعية وقد يكون عدم الاعتناء بالشك والمضي في المشكوك كالشك في النافلة وبعد الفراغ وبعد الوقت ولكن ظهور نفي حكم الشك بنفي
[ 261 ]
موضوعه وان كان بواسطة غلبة الوجود وانس الذهن في نفي البناء على الاكثر ونفي صلاة الاحتياط التي من آثار البناء على الاكثر لا يمكن أن ينكر. الامر السابع: لو شك في عدد ركعاتها فهل عليه البناء على الاكثر أو لا يجري هذا الحكم في حقه؟ وقد عرفت في الامر السابق أن قوله عليه السلام: " لا سهو في سهو " ظاهر في أن حكم الشك الذي هو البناء على الاكثر ليس في السهو أي فيما هو مسبب عن السهو أي صلاة الاحتياط فالبناء على الاكثر لا وجه له لحكومة هذه الجملة على عمومات
البناء على الاكثر على فرض شمولها لصلاة الاحتياط. فيبقى الكلام حينئذ في أنه هل يبنى على الاقل لاستصحاب عدم الزائد عليه؟ أو الاستصحاب ألغاه الشارع في باب عدد الركعات فيكون أصل الصلاة باطلة لعدم إمكان العلاج فتجب الاعادة لقاعدة الاشتغال؟ والظاهر عدم مانع من جريان الاستصحاب فيجب البناء على الاقل. ولكن الاحتياط بالاعادة لا ينبغي تركه لاحتمال إلغاء الشارع اعتبار الاستصحاب في باب عدد الركعات في الفرائض اليومية. الامر الثامن: لو نسى صلاة الاحتياط وشرع في صلاة أخرى فتذكرها في أثنائها فهل يجب عليه العدول إليها فيما لم يجز عن محل العدول؟ أو يجب قطعها والشروع في صلاة الاحتياط؟ أو يشرع في صلاة الاحتياط بدون قطع تلك الصلاة بمعنى أنه بعد صلاة الاحتياط يبنى على ما كان من صلاته؟ أو يتم ما فيها ثم يشرع في صلاة الاحتياط؟ وجوه واحتمالات: أقول: إن الصلاة التي دخل فيها بعد أن نسى الاحتياط إما مرتبة على الصلاة التي وجب الاحتياط لاجل الشك فيها واما لا وعلى التقدير الثاني إما فريضة أو نافلة وعلى جميع التقادير إما جاز عن محل العدول أم لا.
[ 262 ]
والمراد من التجاوز عن محل العدول كون ركعات ما صلى في الصلاة الثانية أزيد من صلاة الاحتياط مثلا صلاة الاحتياط ركعتين وهو تذكر نسيان صلاة الاحتياط بعد أن دخل في الثالثة واتى بالركوع فلا يمكن العدول فإذا أمكن العدول وقلنا بأن العدول موافق للقاعدة فيجب العدول. وأما إن قلنا بعدم كونه على القاعدة أو لا يمكن العدول وقلنا بفورية الاحتياط وعدم جواز تأخيره فان قلنا بجواز الصلاة في الصلاة وانها على القاعدة فيشرع في
صلاة الاحتياط في أثناء تلك الصلاة ثم بعد أن فرغ عن صلاة الاحتياط يبني على تلك الصلاة ويتمها وإلا فيقطع تلك الصلاة ويشرع في صلاة الاحتياط ثم بعد إتمامها يستأنف تلك الصلاة واما إن كانت تلك الصلاة نافلة فلا محذور في القطع على كل حال. والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
[ 263 ]
22 قاعدة حجية الظن في الصلاة
[ 265 ]
قاعدة حجية الظن في الصلاة * ومن القواعد الفقهية المعروفة قاعدة " حجية الظن في الصلاة ". والبحث فيها من جهات: الجهة الاولى في مدركها وهو أولا: الاجماع وقد ادعاه في الجملة جماعة وان قلنا مرارا إن دعوى الاجماع في أمثال هذه المسائل مما لها مدارك نقلية لا وجه له أصلا وليس من الاجماع المصطلح الاصولي الذي أثبتنا هناك حجبته. وثانيا: الاخبار المستفيضة وفيها صحاح: فمنها: النبوي العامي " إذا شك أحدكم في الصلاة فلينظر أي ذلك أحرى إلى الصواب فليبن عليه " 1. والنبوي الآخر " إذا شك أحدكم فليتحر " 2. والاحتمالات في هذا الحديث أربعة:
*. " القواعد " ص 111. (1) " صحيح مسلم " ج 1، ص 401، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب 19، ح 90، " سنن النسائي " ج 3، ص 28، باب التحرى، " سنن ابن ماجه " ج 1، ص 383، كتاب الامامة، باب 133، ح 1211. (2) " سنن البيهقي " ج 2، ص 330، باب لا تبطل صلاة المرء بالسهو فيها، " سنن النسائي " ج 3، ص 28، باب التحرى، مع تفاوت يسير.
[ 266 ]
الاول: أن يكون المراد من الشك في الصلاة هو الشك في إتيان الصلاة وامتثال أمرها. الثاني: أن يكون المراد منه الشك في عدد الركعات. الثالث: أن يكون المراد منه هو الشك في أفعال الصلاة وأجزائها. الرابع: أن يكون المراد الاعم من الافعال ومن الركعات. والانصاف أن الظاهر من النبوي الاول هو هذا المعنى وأما النبوي الآخر على فرض أن يكون حديثا آخر فالظاهر هو أن يكون المراد منه أيضا هذا المعنى أي إذا شك في عدد الركعات أو الافعال فيجب التحري عن المشكوك. هذا بناء على أن يكون متعلق الشك فيه أيضا هو الصلاة وإلا فلا يخلو عن إجمال وأما الاحتمال الاول - وهو أن يكون المراد من الشك في الصلاة هو الشك في أصل إتيان الصلاة وامتثال أمرها - وان كان موجبا للخروج عن محل البحث ويكون الحديث بناء عليه غير مرتبط بالمقام ولكن الاحتمال بعيد وذلك لعدم حجية الظن في مقام الامتثال وهذا واضح جدا. اللهم إلا أن يقال: بأن الشارع جعل الظن حجة في مقام الامتثال كما أنه قيل بناء على الكشف وتمامية مقدمات الانسداد ولكن هذا يحتاج إلى دليل مفقود في المقام. ومنها: صحيحة صفوان عن أبي الحسن عليه السلام قال عليه السلام: " إن كنت لا تدري كم
صليت ولم يقع وهمك على شئ فأعد الصلاة " 1. ومفهوم هذه الصحيحة هو أنه لو وقع وهمك على شئ أي وقع ظنك على أحد طرفي المحتملين فلا تجب الاعادة.